اشتقت لمدرستي

حنين إلى المدرسة في زمن التعليم عن بعد

إغرورقت عيناها الصغيرتان بالدموع وهي تعانق محفظتها الحمراء وتقول في صوت خافت:
إشتقت لمدرستي، لمعلماتي، لأصدقائي وصديقاتي، إشتقت لحمل محفظتي على ظهري، لوزرتي البيضاء، لصفي ولأقلامي المبعثرة على طاولتي، إشتقت لألواني ورسوماتي في حصة التربية الفنية، إشتقت لنصائح أبي وهو يرافقني إلى المدرسة، لعمي” الهاشمي” وهو يرحب بنا كل صباح عند باب المدرسة وآخر من يودعنا منها كل مساء، إشتقت لحلويات “بّـا محمد”، لصخب الأطفال وهم يصعدون في الدرج، إشتقت للعب مع صديقاتي، لحصص الرياضة ونحن نركض ونلعب ونسقط ونصرخ بكل حرية، إشتقت لأكل وجبة الغذاء مع “طاطا لطيفة” والأصدقاء، إشتقت لنبتتي التي كنت قد غرستها بمناسبة دروس “وحدة النباتات” في مادة النشاط العلمي، إشتقت لنقاشاتنا مع معلماتنا، لضحكاتنا من إجابات وآراء وفرضيات البعض منا وللأجوبة المبهرة وللتصفيقات الحارةعليها…

إشتقت للكتابة على السبورة، اشتقت لحصص التعبير والتذوق، لتمثيل الأدوار مع التلاميذ وتقمص الشخصيات التي كانت في الحوارات والحكايات، لشرح المعلمة وهي تتنقل بين الصفوف، إشتقت لكل شيء في مدرستي حتى لتوبيخ معلمتي هدى عن تأخري المتكرر كل صباح…

أنا لست كسولة ولا متكاسلة يا أمي، فقط ما أريده هو أن أحفظ قرآني ومحفوظاتي جماعة بصوت عال مع باقي أطفال قسمي، أريد أن أتقن جدول الضرب وأفهم جميع مسائل الرياضيات من خلال شرح معلماتي على السبورة الخشبية، أريد أن أفهم العلوم في جو مليء بأقراني، الكل يحاول أن يجيب على التساؤلات المطروحة، أريد أن أتعلم من خطئي وأخطاء زملائي، أريد أن أتعلم من تقاسيم وجه معلمتي ونبراتها وحركاتها، أنا أتعلم فقط يا أمي عندما أكون سعيدة ومرحة في جو مليء بالحركة والحيوية.

أمي، لقد سئمت من السكون والسكوت، سئمت من الوحدة وحدي، سئمت من أيامي التي غدت يوما واحدا باهتا شاحبا، سئمت من الجلوس هنا على هذه الطاولة، نفسها الأصوات من دون تعابير، نفسها الدفاتر والأقلام من دون مشاعر، نفسها الأوراق من دون بهجة…”

ضممتها إلي وأنا أحاول أن أخفي غصة الألم الذي اجتاحني فجأة… حينئذ أدركت أن المدرسة ليست مجرد جدران وأدوات تعليمية ومقررات، أدركت أن السبورة الخشبية بلونها الأسود لها قدسيتها الخاصة عند الأطفال، ولن تعوضها أية لوحة إلكترونية بألوانها البراقة، أدركت أن الحجرة المدرسية بما تحتويه من طاولات وخزانات ورسومات ومدرسين وتلاميذ لن يعوضها أي مكان آخر …

فهمت أن التعلم عند الأطفال ليس بالإجبار والصراخ في وجوههم كما نفعل نحن الأمهات في بعض الأحيان، ولا بحشو معلومات لم تستوعب بعد جيدا، فهمت أن التعلم عند الأطفال ليس بالشرح من خلال الفيديوهات ولا التسجيلات الصوتية… فهمت أن الأطفال يتعلمون مع بعضهم البعض مرفوعي الرؤوس وليس كل واحد قابع لوحده منحني الرأس على لوحته الإلكترونية.


لا وألف لا، لن يعوض التعليم التقليدي في مدارس الأطفال أي تعليم عن بعد مهما كان من التطور والإتقان، فهم يحتاجون للتعلم خارج منازلهم بعيدا عن الأهالي والأمهات والآباء بعيدا عن كل قيود وضغوط، فهم أحوج ما يكونون في هذا السن إلى الحرية والشعور بالاستقلالية والاعتماد على النفس، فأكيد كل منا كان طفلا يفهم عشق الأطفال لكي يصبحوا كبار ويتحرروا من كل القيود والقواعد المنزلية.

فالطفولة عالم مليء بالحركة والحيوية والنشاط، مليء بالأشكال والألوان، مليء بالفراشات والرسومات…يتعلمون من خلال نبرة الأصوات وتناسق الحركات، يتعلمون من الضحكات والتحفيزات والإبتسامات وحتى الانزعاجات…
عندما يصبح لسكوت المعلم صوت عال يسمعه التلاميذ، عندما تكون للنظرات والنبرات معاني عميقة يتلقط مغزاها الصغار،عندما يصبح التنافس وقود الهمم ومفجر الطاقات... عندها فقط سنفهم أن من بنوا الكتاتيب والمدارس للصغار ولم يتركوا تعليمهم للأمهات...لم يفعلوا ذلك عبثا.

مسحت دموعها بيدي، وأنا أقول لها “نحن الأمهات نفهم كل هذا، لكن الوباء يا بنيتي فرض علينا أشياء كثيرة نرفضها من أعماق دواخلنا….، فرض علينا نحن الأمهات أن نقوم بأدوار المعلمات، كما فرض عليكم هذه اللوحات الالكترونية والاستماع إلى هذه الفيدوهات والتسجيلات الصوتية…. أنا أدرك جيدا أنك يا بنيتي لست كسولة ولا متكاسلة، لكني رأيتك تتثاقلين وتسوفين في دراستك، وهذا ما أثار غيظي واستفزني، فأنا أحاول بكل جهدي أن أزرع فيك الشغف بالدراسة والمطالعة، أريد أن أراك تقبلين على دروسك بعزيمة وصمود رغم كل الصعاب والمحن، أريد أن أراك تناضلين من أجل طموحك بجد واجتهاد.

فلتقطعي كل الأواق، ولترسمي بكل الألوان، ولتمرحي ولتضحكي، ولتبعثري كل الأقلام وحتى الدفاتر، ولتغني بأعلى صوتك، ولتصفقي بحرارة، ولتلصقي كل صورك ورسوماتك على حائط غرفتك… لكن لا تحزني ولا تنكسري، تعلمي بالوسائل المتاحة، كوني كالعشب الناعم ينحني أمام العاصفة ولا يتكسر…
في الأخير، طلبت مني ورقة وكتبت عليها: اشتقت إلى مدرستي

اشتقت لمدرستي

سليمة الحدوشي

باحثة في القانون والسياسات البيئية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *