كفى عنفا أيها الآباء والأمهات

تعنيفكم لأطفالكم دمار لمستقبلهم وخسارة للأمة بأكملها

اجتاحني شعور المرارة والحزن الشديد والحرقة على ما عانى ولازال يعاني منه وبشدة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين سنة وسبع عشرة سنة من ظاهرة العنف الأسري، باعتبارها من أقدم الظواهر الاجتماعية القديمة المؤلمة والبشعة التي عرفتها البشرية .
كما أن التاريخ لم يخل من قصص أطفال تعرضوا للعنف من طرف آبائهم وأمهاتهم خاصة “الفتيات”، وعندما نقول “فتاة” (أقصد من لا يحق لها الانتماء لنسب الإنسانية) فترتبط هذه الصفة عن البعض بكائن ضعيف يجلب العار حسب ظنهم ولا يحق له العيش الكريم، حيث أنه معرض للعنف أكتر من الذكر بكتير.
ومن المؤلم أن يحرم طفل بريء من عيش سنوات طفولته في سلام وطمأنينة ووسط بيئة يملؤها الدفء والحب الأسري.

لذلك أردت أن أتقاسم معكم بعض الآلام والمعاناة النفسية والجسدية التي مر منها أحد أقربائي وبعض أصدقائي في طفولتهم وتحليلها والتساؤل حولها مرارا وتكرارا بكل حيرة وكل صدمة لمدى استمرارية انتشار هذا العنف في جميع أنحاء العالم، ولعلكم صادفتم أو ستصادفون حالات أطفال تعرضوا لسوء المعاملة وللعدوانية في صغرهم، قد
يكون صديقا أو صديقة، أخا أو أختا، أو قد يكون أنت يا من تقرأ، وإن صودف وكنت أنت فسأستغل الفرصة لأقول لك أنا آسفة، حقا آسفة لكل ما تعرضت له من عنف لفظي أو جسدي، من كل ضرب وسب وذل وإهانة وجروح، لكل ركل وخنق وتهديد وكسر ودفع ومن كل إحباط، فنحن في مجتمع لا يرحم ووسط غابة قانونها القوي يأكل الضعيف.
آسفة لكل ليلة لم تنم(ي) بسبب آلام الضرب، آسفة لكل دمعة سقطت منك دون إذنك في محاولة فاشلة منك لإخفاء جروحك الجسيمة والروحية، آسفة لكل صفعة تلقيتها ولم تكن تستحقها، أنا فعلا آسفة …..

لن أقول أن الآباء على خطأ أو صواب، ولن أقول أنهم يكرهون أبناءهم فلا يوجد في العالم من يكره قطعة من كبده، فالحياة قاسية عليهم أيضا والعالم الخارجي كأرض معركة دامية، كل يوم يقاومون ويحاربون فيها من أجل أبنائهم ومن أجل توفير حياة أفضل لهم، لكن هذا لا يبرر استخدام العنف ولا يبرر التصرفات الهمجية والشتائم المؤذية
و كل تلك العدوانية. حقا الحياة أبسط من أن تجعلها كشبكة عنكبوتية معقدة لا تستطيع الخروج منها إلا وأنت هالك.
أعلم أنكم تريدون تربية حسنة لهم وتريدون حمايتهم من العالم الخارجي؛ أجل تريدون منهم أن ينضجوا، لكن ليس هكذا.

صورة تعبيرية

الآن أوجه السؤال إليكم معشر الآباء والأمهات، هل كان للعنف يوما نتيجة مرضية ؟ ألا زلتم لا تقدرون قيمة وجود هؤلاء الأطفال في حياتكم؟
ألا يكفي أنكم تعذبون روحا من روحكم ودما من دمكم، ألا يكفي؟
ألا تعلمون الأضرار الخطيرة المترتبة عن هذا العنف؟
ألا تخافون من إصابتهم بالضرر وتدمير مستقبلهم؟ ألم تتعلموا الدرس بعد؟
فعوض أن تساعدو في بناء شخص سليم ومواطن صالح وإنسان يفيد نفسه وأهله، تساهمون فقط في تحطيم جزء أو أكتر الأجزاء سلامة وأكترها عطاء، تحطمون الركيزة الأساسية (التي تبنى عليها شخصية الإنسان الناضج المنتج، النافع والمشرق).

إن العنف الأسري متوارث عند معظم الأسر من جيل إلى جيل لاعتقادهم بأنه يصب في مصلحة أبنائهم، ولا يدركون مدى خطورته على حياتهم على المدى البعيد. فلن نحظى بالسلام ولن نضمن حقوق أطفال المستقبل إذ لم نغير وراثة هذا العنف؛ قال تعالى في الآية العاشرة من سورة البقرة: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ فِے اِ۬لَارْضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَۖ}؛ هنا بين عز وجل أنه من يسلك طريق الفساد وإن كان هدفه الإصلاح فسوف يحصد الفساد المر، ومن يزرع الريح لن يحصد إلا العاصفة .

أعلم أن الله تبارك وتعالى قد أعطى للآباء سلطة تجاه أبنائهم باعتبارهم ملكا لهم، لكن أوصى سبحانه بجعل هذه السلطة صحبة أي صداقة مليئة بالحب والحنان وحسن الرعاية بلا ضرب ولا شتم ولا إهانة ولا استحقار، لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اُ۬للَّهُ فِےٓ أَوْلَٰدِكُمْۖ} (الآية 11 من سورة النساء).
وقد أوصى رسولنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية بالإحسان إلى الطفل والرفق به لقوله : “ليس منا من يعذب صغيرنا “.
فمن جهة، الطفل لا يكون على وعي ودراية عن سبب تلقيه هذا العنف، فلازال صغيرا، لازال في مرحلة النمو العقلي والجسدي ولا يستوعب أنه تلقى أي نوع من أنواع العنف بسبب ارتكابه خطأ ما، لا يفهم ما الغاية من ذلك ولا يسمح له بالتعبير عن غلطته، فيمكن أن يكون ارتكب خطأ بسيطا لا يستحق كل هذه المعاملة ويمكن كذلك أن يكون مظلوما ولم يفعل أي شيء، ومع ذلك لن يستمع له أحد؛ سيكون تعبيره عبارة عن صراخ وبكاء مع الأسف.
عندما أفكر أجد أن أصعب شعور من كل هذا أن تتلقى “الصفعة” ممن كنت تظنهم مرجعا لك ومنبعا للحنان والعطف والحب والحماية، وبتحدثي عن” الصفعة ” أقصد بها الجسمانية كما المعنوية، والثانية تكون أكثر ألما وأشد قسوة على مر الزمان.

من جهة أخرى، فهناك تأثير سلبي في حالة تلقي الفتيات للعنف من طرف آبائهم، وهو عدم تقبلهم لوجود رجل في حياتهم بسبب تخيلهم وتوهمهم أن كل الرجال سيشبهون آباءهم. كذلك بالنسبة للذكور الذين سيتصفون ويقلدون نفس الطريقة العنيفة والمعاملة السيئة التي تلقوها في صغرهم.
ويا أسفاه على ما تسبب به بعض الآباء والأمهات من مشاكل تتعلق بمستقبل أطفالهم. إن النتائج المترتبة عن هذا العنف تبدو مرعبة على المدى البعيد حيث يتعرض غالبا جل الأطفال المعنفين لفظيا أو جسديا أو عاطفيا بسبب آبائهم، لاكتساب صفات الحقد والكراهية والقسوة والعدوانية في التعامل مع الآخر ثم ضعف في العديد من القدرات والمهارات، اختيار العزلة والانطواء على الذات في أغلب الأحيان، وكذلك التسبب في الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، داء السكري وداء السرطان، والشعور بآلام مزمنة في الدماغ والبطن والحوض، ثم تشكل ضعف في النمو العقلي ونمو الجهاز العصبي والنمو الإدراكي أيضا، مما قد يؤدي لتشكل ضعف في مستوى التحصيل الدراسي، والتعاطي لا قدر الله للتدخين بالسر والمخدرات والكحول أو ارتكاب الجرائم، التفكير في الانتحار، ارتفاع نسبة تعرضهم للاكتئاب، حيث أكدت بعض الدراسات البحثية المهتمة بقضايا الأطفال على أن ضربهم يقضي على شخصيتهم مع مرور الزمن، بالإضافة إلى الكراهية التي تتكون في قلب الطفل تجاه من عنفه أباه كان أو أمه.

أعلم أنكم أرهقتم بقراءة كل هذه النتائج، لكنها لم تنتهي بعد؛ فسيعانون من قلة النوم، الشعور المستمر بالخوف والرعب عند التواجد في نفس المكان مع آبائهم دون فعل أي شيء، الشعور بالتشاؤم في الحياة رغم صغر سنهم، عدم تقدير واحترام النفس مع هدم الثقة بالنفس وانعدام الثقة بالآخرين طبعا، التهور، الفرار والهرب من المنزل… فكل هذه الاضطرابات ستؤدي إلى عدم تمتعهم بالصحة والعافية طوال العمر.
فكيف تطلبون البر والحب من جعل هذا العنف الأسري بأنواعه حوارا للتواصل مع أبنائكم؟

لا شك أن أكثر الأسباب المؤدية للعنف تكمن في ضعف الرابطة العائلية سواء بسبب الانشغال في العمل أو تعاطي الأب أو الأم نوعا من أنواع المخدرات، أو تفككها بسبب الطلاق الذي يؤدي إلى انفصال الطفل عن أحد والديه والاستقرار مع الطرف الآخر حيث سيشعره هذا الوضع بالغرابة وعدم الراحة والحوار طبعا الذي سيؤدي إلى عدم مشاركة حياته وهمومه مع ولي أمره ولجوئه سواء إلى شخص عاقل وواع لإرشاده وتوجيهه إلى الطريق الصحيح، سواء لأصدقائه بالرغم من معرفة أن النتيجة ستكون” الشفقة “. لذلك أرى أن أهم وأجمل شيء هو اللجوء والتقرب إلى الله تعالى لأنه سبحانه الوحيد الذي يسمح لنا بملاقاته خمس مرات في اليوم بكل حالاتنا، بفرحنا وسعادتنا، أحزاننا وآلامنا… فالحمد لله أولا وليس آخرا.

ومع الأسف، منذ ظهور هذه الظاهرة إلى حدود الساعة، لا توجد قوانين تعاقب عنف هؤلاء الآباء والأمهات والسبب معروف، لكن توجد قوانين عامة من أجل حمايتهم من كافة الأضرار. و يبدو لي أن أنسب حل للحد و التصدي لهذه الظاهرة هو تأسيس مؤسسات أو مقرات تثقيفية لتعليم وتوعية وتدريب الأزواج المقبلين على الإنجاب -أو هذه الفئة من الآباء- مع اكتساب طريقة لعقاب الطفل عقابا منطقيا عند الخطأ بتشكيل حوار هادئ  دون توتر. لهذا أظن أن أرقى أسلوب لحل مشكلة ما هو أسلوب الحوار والمفاوضات.

وفي الختام، لو تعامل أولياء الأمور بهدوء ورزانة ووعي مع أطفالهم لتحسن سلوكهم إلى الأفضل.
لذا كونوا قدى لهم وليس أعداء يتربصون بهم، فالأسرة مسؤولة عن الرعاية النفسية والمعنوية والجسدية للطفل بهدف إنتاج فرد صالح ومؤهل لبناء مساره في المجتمع بامتياز إن شاء الله تعالى، ونسألك اللهم الهداية لكل الآباء والأمهات الذين يعنفون أبناءهم.
ويبقى الأمل في حدوث تغير في طريقة التربية لدى معظم الآباء والأمهات، يبقى الأمل …

كفى عنفا أيها الآباء والأمهات

شيماء السعيدي علوي

انا طالبة جامعية متخصصة في دراسة القانون بالفرنسية