في معاني الفقد

فقدان الأم فقدان لبوصلة الطريق

دائما ما أردد القول أن أصعب ما قد يمر به  المرء من آفات ومصائب إلا وكان للفقد وأحاسيسه النصيب الأوحش والأقسى على الإطلاق، لأن الفقد -وخصوصا فقدان الأم– يردي الإنسان بجسد أجوف، مبتور غير مكتمل الملامح، تدفعه بعدها ضرورة الحياة إلى  المضي قدما وتقبل مطبات الحياة بالصبر والإيمان بقضاء الله وقدره، لكن استعداده للمواجهة والسير في دروب الحياة لا يكون بالقوة والعظمة المطلوبة لأنه  يقابل العالم بانكسار وسواد كاحل مجفل، تغيب فيه كل الألوان، يبقى فقط لون الغيم المثقلة بالسواد السائد والمسيطر؛ هناك وفي ذلك الوقت تفقد الحياة رونقها وطلتها البهية لتصير بعدها باهتة بدون أي صبغة أو معنى جلي، يحاول العقل ويئن إلى النسيان لكن الحياة تترك جرح الفقد طريا لا يشفى ما حييت حتى وإن حاولت التملص منه.

هاهو الآن العام السابع يمر كالبرق بعد ذلك الحادث الأليم، كيف أن تلك الصورة مازالت عالقة بذهني بأحداثها، مشاعرها وكل تفاصيلها.

أتذكر ضحكاتها الخالصة التي لاتشوبها شائبة، روحها المرحة المليئة عن آخرها بحب الحياة كزهرة الربيع المتفردة بين الحقول، خفيفة الحركة، رشيقة القوام، بهية الوجه والطلة.

كانت علاقتنا سطحية إلى حد ما، تجمعني معها بضع كلمات وابتسامة خفيفة، أعهدها دائما بأناقة لا حدود لها وبأدب جم وضحكات تخطف القلب والعقل معا؛ لم أكن حقيقة على علم بمرض والدتها كونها لا تكشف آلامها وتلتزم الكتمان حتى لو كان الألم قاسيا ومدويا.

ذات صباح وأنا في طريقي إلى البيت من المؤسسة حيث كنت أدرس، التقيت بها في منتصف الطريق، تبادلنا أطراف الحديث بكل ود، ولمحاسن الصدف مر علينا بائع التمر وأعطانا بضع تمرات فقالت بلهفة وفرح طفلة صغيرة: “قبل أن أقضم هذه التمرة يجب أن أتمنى أمنية وأدعو الله علها تكون ساعة استجابة“، ثم قالت وهي تتنفس الصعداء: “سأدعو الله أن يشفي لي أمي وكل المرضى المسلمين”. شاركتها في المقابل بالدعاء وأعطيتها تمرتي كون التمر لا يعجبني، انفرجت أساريرها بلهفة وفرح باد.. أخذت تأكل التمرة بانشراح وبهجة ثم توادعنا حينها وذهبت كل منا إلى حال سبيلها.

بعد يومين أو ثلاثة أيام لا أتذكر جيدا، جاءني خبر الصاعقة الذي سقط على قلبي كالجمر؛ “وفاة أم يسرى”. شلت حركتي حينها، أظنها ساعة أو أكثر من الصمت لم أقوى فيها على القيام بحركة واحدة أو التلفظ بحروف متناسقة تكون كلمة مكتملة، حتى الجو في ذلك اليوم كان مختلفا، شمس متوارية عن الأنظار وجو شديد الرماد يبعث عن حزن جلي….
ذهبت يومها رفقة بعض الأصدقاء للقيام بالواجب وتقديم العزاء. المنزل كان مكتظا عن آخره، البكاء والنحيب يسمعان من كل اتجاه، غيمة الحزن تخيم على الحي، أسرعت الخطى كي أبحث عن “يسرى” بين جموع الناس، أسأل بحذر شديد بعض الأصدقاء علهم يرشدونني إليها حتى وجدتها أخيرا في جسد ليس بجسدها؛ وجدت أمامي جثة مسنة ضامرة بلغت من العمر عتيا، بوجه شديد الاصفرار لا أظن أنني قابلت وجها كذلك من قبل، عيون منتفخة وانكماش  واضح على وجهها. أتذكر جيدا كيف كان أصدقائها ومعارفها يمسكونها كي لا تسقط، الدموع حينها لم تجد مستقرا لتنفلت وتبلل خديها، تتأوه بأنين مرير ونبرة تنم عن مأساة مدوية… في وضع يحبس الأنفاس وتراجيديا تعصف بكل من رآها، خلت أنها تحتضر، صعقت من هول المشهد الذي لم أكن أتصور بأنه سيرافقني بعد ذلك طوال حياتي، أدركت حينها معنى أن يكون المرء تحت وطأة الفقد.

في تلك الأيام العصيبة كنا على أبواب امتحانات البكالوريا والتي وضعت “يسرى” قيد امتحان عسير؛ المفاجأة أن الفتاة لملمت كل قطعة من  كسورها ودفنت مشاعر الحزن والأسى بصمت واتزان بارزين.

اجتازت حينها الامتحان ببراعة وتفوق، لا أدري مقدار قوة الإنسان على الصبر لكن “يسرى” أعطتني  حينها درسا عن حجم التحمل الذي يكتنزه أولئك الناس ممن ذاقوا ويلات الفقد، كيف ينجحون بجهد جهيد في دفن الآلام خلف الابتسامة ويلبسوا ثوب الحكمة والثبات في عز المحن، أبانت تلك الفتاة المرهفة الإحساس والمليئة عن آخرها بحب الحياة عن قوى خارقة وعنفوان لا مثيل له، ووقفت كجبل شامخ يسكنه ببركان خامد من المرارة.

في معاني الفقد

فاطمة الأعرابي

24 سنة طالبة بسلك الدكتوراه بكلية العلوم تخصص علم البيئة ، أحاول أن أحتراف الكتابة ، أهوى قراءة الكتب ،السفر و الطبيعة