هكذا تتآلف الأرواح

الأرواح عندما تتعارف تتآلف

تلك الخيوط اللامرئية التي تجمعنا بأشخاص نراهم للمرة الأولى، فنحس أننا نعرفهم من قبل، نحاول أن نتذكر بلا جدوى أين التقيناهم، متأكدين نحن في أعماقنا أننا نعرفهم، نتفاهم بسهولة معهم، نعجب بأفكارهم، تتوغل فينا مشاعرهم بغض النظر عن انتماءاتهم أو أعراقهم، لونهم أو شكلهم، يكون حضورهم خفيفا وجميلا كأنه هو ما كان يلزمنا بالضبط للشعور بالراحة وما نحتاجه لإستكمال سعادتنا،وغالبا،يكون لقاؤهم صدفة كما اعتادت الحياة أن تفاجئنا،ربما يكون على رصيف انتظار حافلة،أوفي قاعة انتظار عند طبيب ما،أو رفقة شخص ما هناك في درب قصير ملتو من دروب الحياة..

أحاسيس تجعلنا نتساءل مستغربين هذا التقارب الذي يحدث فجأة بينما قد لانشعر بانجذاب كهذا لأناس نعيش معهم معظم أوقاتنا، أناس ربما هم زملاء في وظيفتنا، أو يشاركوننا أعمالنا، أفراحنا، أتراحنا، وربما كل حياتنا، قد يكونون أفراد عائلاتنا أو زملاء دراستنا المهم أننا نقضي معهم جل أوقاتنا، نخرج معا، نأكل معا، ندردش معا، وربما نعيش معا، لكن دون إرادة منا يظل ذلك الحاجز موجودا بيننا كجليد يجمد إحساسنا تجاههم، فراغ لا تملؤه نزهة، وتباعد لا يقربه اجتماع حول مائدة…

لا ندري هل سبب هذا التباعد الحسي اختلاف في الأفكار أم تباعد في الاهتمامات، لكنه يظل دائما هناك، شيء لا ندري كنهه، نحسه ولا نراه، يتخفى خلف الضحكات والابتسامات بينما يفضحه ألق العيون، شيء باهت جدا، يكاد لا يرى، لكنه فجأة يطل ساخرا مهما غلفناه بعبارات منمقة، صارخا وسط ما دثرناه به من صمت، وباردا حينما نرتجي الدفء عند الحاجة، يبرز وسط النقاشات التي نوقفها لصده، يطفو إلى السطح حين نحتاج صدرا يفهمنا دون أن نتكلم، يواسينا بلمسة دون أن يتحدث، ويطمئننا بنظرة قبل أن يعاتب..

نقف مشدوهين مفعمين بالحيرة أمام هذه الأحاسيس الإنسانية الشفافة، هل ذلك غياب للألفة أم انعدام لصدق الحب؟ بل كيف لا يحبنا من تقاسمنا معهم أجمل ذكرياتنا، أو أفراد أسرنا وعائلاتنا الذين نعلم يقينا أنهم يحبوننا ونحبهم، إذن فهذا الشعورلاعلاقة له بالحب، بل إحساس آخر يبدو شعورا فوق الحب، وأعمق من الحب وأكثر شفافية منه، أصدق في معرفة أرواحنا، وأسرع في التسلل إلى أعماقنا…

هي الأرواح حين تتعارف تتآلف ولو لم تتحدث، حتى لو كانت تلتقي لأول مرة، وكذلك الأرواح حين تتخالف تتنافر ولو عشنا معها طول العمر وأبد الدهر،فهي ذاك الإحساس الصادق الكامن في أفئدتنا، يعرف من يشاطرنا نفس الاحساس، ويشاركنا نفس المشاعر، فينسجم بسلاسة وتجري الألفة بينها كما يجري ماء النهر، يُقرِّب رغم الأميال الفاصلة في الواقع، ويعالج الاختلاف باحترام لا يفسد للود قضية..

لذلك فنحن حين نعود بذاكرتنا إلى الوراء، نجد أن أقرب الأماكن إلى قلوبنا هي تلك التي مست أعماقنا فحملناها معنا في أرواحنا، وأحب الذكريات إلينا، هي التي شارَكَنها مع من هم الأقرب الى احاسيسنا، أولئك الذين مسُّوا أعماقنا، فحملناهم دوما في ذاكرتنا، أولئك الذين استطاعوا أن يغمروا وجداننا بحب دونما إرادة منا..

هو إذا ذلك الخيط الشفاف اللامرئي بعيننا المجردة، يجمع أرواحا تتشابه، تحمل نفس العمق والمبدأ، وتمشي على خطوط متشابهة في الحياة مهما اختلفت الطرق والمسارات، تلتقي دوما سواء في الواقع أو الذكريات، على أنغام الصمت أو الكلمات، بروابط خفية، شفافة ومريحة..هكذا

هكذا تتآلف الأرواح تتآلف الأرواح

Exit mobile version