يوم الامتحان

ذكريات أستاذ داخل حجرة الامتحان

كيف لي أن أصحو وقد كنت شارد الذهن طيلة الليلة، فالقهوة التي كانت أنيسة لي في المساء جعلتني أنيسا لنفسي من الليل حتى الصباح؛ الهاتف يرن لكي أقوم وأتوضأ لأصلي، ولا داعي لقول أني سأتناول فطوري فقد تعودت ألا تكون الوجبة في تلك الساعة، لأنتظر بعض الوقت وأتجه بعد ذلك إلى مقر عملي في يوم جديد بدون اصطحاب أي مقرر ولا جذاذة، يكفيني أن أصطحب معي نفسيتي فقط وأحافظ على هدوئي المعتاد.

اليوم ليس لإلقاء درس وإنما للحراسة متمنيا التوفيق والسداد لتلاميذ الثالثة إعدادي في اجتياز الامتحان المحلي بنجاح. وفي وقت الحراسة، وبينما أستغفر الله في نفسي، فقدت تركيزي شيئا فشيئا حتى اصطدمت بذاكرتي تجول بالتفكير في النون التي كانت قد أخذت من وقتي لأترك لها هذه التدوينة الخاصة بها. فقد مرت الساعة الأولى والأجواء على ما يرام، إلا وأنه بعد هذه الساعة سافرت بي مخيلتي إلى عالم العشق والحب والأمان إلى جوار تلك الأنيسة الرقيقة العفيفة الطاهرة الطهورة؛ بسببها تركت الحراسة حتى سمعت التلاميذ يطالبون بالمبيض، وقد كنت أفكر والأفكار تنتقل عبر الهواء لدى المتعلمين، فالأسئلة من نوعية صحيح أم خطأ، أو صل بسهم، سهلة التمرير إلا أن الصوت لا يخفى علي، فتفكيري كله سافر ليجد كيفية الحديث مع تلك النون التي سألتقي بها عما قريب.

هنا تذكرت القصة التي أخبرني بها صديقي حمزة لما وقع “لميمون أم العبد” أثناء مراقبته لتلاميذه في الفرض المحروس، وسافرت به مخيلته لتلك الشعوذات التي مر بها من أجل كسب حب عشيقته التي يحبها، بينما الكلمة المشهورة بالنقلة قد مرت من بين أعيني كأنني غير حاضر في القسم وتركت المهمة لزميلي في الحراسة الذي كان صارما يحذرهم في كل مرة، ولكن المتعلمين الذين كنت بجانبهم لم ينتبهوا له ومرروا ما يجب تمريره فيما بينهم. ولم أنتبه لما فعلته حتى لمحت زميلي متجها نحو المكان الذي كنت فيه كالصنم لا يحرك ساكنا وقد انتهت الحصة وجمع الأوراق. هنا أخبرته بأنني كنت بصدد بحث يخصني في إحدى المواد الدراسية في سلك الماجيستر، وأرهقت نفسي طيلة البارحة حتى الصباح ولم أتمكن من النوم لكي أستريح قليلا، فأخبرني بكل ما وقع طيلة الحراسة التي كنت قد فقدت فيها تركيزي، لأتعجب من كل ما وقع!! وأتذكر أيضا ما فعلته مع إحدى التلميذات في يوم من الأيام وأنا بصدد حراستهم في أولمبياد الرياضيات، حيث كنت أنذاك صارما معهم ولم أترك الفرصة لأي واحد منهم للحديث مع الآخر، حتى حاولت إحدى التلميذات أن تستفسر من سؤال لدى زميلة أمامها لتمدها بالجواب حتى تسمرت أمامها كالشرطي سائلا عن هويتها واسمها، مما جعلها ترتبك في الكلام وأخبرتني أنها تود المبيض فقط -وهو في الأصل ممنوع كما هو مكتوب في ورقة الاختبار-.

عدت إلى مكاني وركزت على مراقبة تلك التلميذتين المذكورتين أكثر من الباقين، وعندما أحست إحداهما بالخجل والضغط الذي مارسته عليهما، ابتسمت وهي تنظر إلي وتقول لي: “أستاذ هل أنت مرتاح حاليا؟”، أجبتها متبادلا معها الابتسامة؛ في أحسن حال ريثما ينتهي هذا الاختبار، مما جعل هذه الابتسامة التي منحتها تزيد من قولها “إن لم تكن مرتاحا في هذا الصف يمكنك أن تنتقل للصف الآخر أو بقرب الباب وتأخذ نفسا عميقا لكي أرتاح أنا أيضا”، ضحكت كثيرا لشجاعتها ولبيت لها الطلب في الحين لخفة دمها؛ وهذا ما جعلني أتبادل معها ومع صديقتها نفس الجملة طيلة الوقت الذي نلتقي فيه داخل المؤسسة بعد الانتهاء من ذلك الاختبار.

بينما انتهت حراسة اليوم الأول من الامتحان تعهدت مع نفسي أن أحاول النوم باكرا وأترك كل الأشغال التي أمزج فيها بين العمل في المؤسسة والتحضير للماجيستر. وأثناء عودتي للبيت قمت بالأشغال اليومية حتى مكنت نفسي بالغط في نوم عميق في ذلك اليوم؛ استيقظت في اليوم الموالي ونفس التفاصيل تكررت من الصلاة للتوجه إلى المؤسسة، ولكن في هذا اليوم مرت الحراسة بسلام وبكل انضباط من التلاميذ، إلى حين الحراسة في مادة الموسيقى التي كنت أهوى أن أتحدث عن نوتاتها لما لها علاقة في ميدان الصوتيات التي درستها في تخصص الدراسي بعدما طلبت مني تلميذة كنت أراها منذ بداية الموسم تتصف بقمة الوقار والاحترام، استوقفها سؤال واحد فقط فعلمت بإجابته من حيث الأصوات، فقدمت لها الجواب نظرا أنها الوحيدة المتبقية في القسم، وما عليها سوى أن تشكرني بعد ذلك العمل الذي أسديته لها، لتسألني هل لدي أولاد وظننت أنها قالت هل لديك “الأولات” أي هل أدرس الأولى إعدادي، لأخبرها بنعم حتى ظلت تدعو الله أن يحفظهم لي ويرعاهم لأقول لها أيضا بأنني أدرس قسما آخر في الثانية إعدادي رغبة في الدعاء لهم بالتوفيق…. ولم أكن أعلم أننها كانت تسألني عن الأولاد؛ حتى كنت مع النون التي شغلت بالي في الأيام التي مضت وأخبرتها بما جرى وما قالته تلك التلميذة في شأن الدعاء الذي ظننت أنها دعت مع تلاميذ الأولى إعدادي، لتخبرني أن الدعاء كان موجها لأولادي الذين لم أحظى برؤية أمهم بعد. وهنا صدمت لما سمعت من طرف النون التي أشكرها لتوضيح ما لم أستطيع أن أفهما، ومن ذلك الوقت كلما رأيتها أضحك لوحدي حتى وإن كان مزاجي سيئا، أبتسم بمجرد رؤيتها داخل المؤسسة.

يوم الامتحان

إسماعيل ايت لحساين

أعمل مدرس للغة العربية بمدرسة خاصة، وطالب باحث في سلك الماجيستر بكلية الأداب والعلوم الانسانية جامعة القاضي عياض