شكيب أرسلان وجهوده الإصلاحية “الجزء الأول”

حياته ونضاله وإسهاماته القومية والفكرية

لقد أسهم شكيب أرسلان مثل سابقيه من المصلحون محمد علي وأقرانه من التيار السلفي علي الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده… وغيرهم، حيث أخذ عنهم أفكارهم الإصلاحية ومجهوداتهم في بناء صرح الأمة العربية الإسلامية، فقد نشأ شكيب أرسلان حياته مطلعا على واقع الأمة العربية المتجه نحو الانهيار. ذلك ما مكنه من الكشف عن أسباب هذا التراجع والتأخر، ما دفعه إلى بذل كل مجهوداته في بناء الأمة العربية وإعادة إحياء تاريخها وتراثها القديم، بالإضافة إلى إقدامه على مجهودات جبارة في القيام بتقديم إصلاحات لهذه الأمة من أجل بنائها وإعادة تهيئتها من خلال تحقيق الوحدة التي ستكون بعثة لنهضة عربية، تكون نتيجتها إحياء أمة عربية إسلامية موحدة، والوقوف ضد الاستعمار الأوروبي.
• فمن هو شكيب أرسلان؟
• ماهي ظروف نشأته؟
• وماهي مجهوداته الإصلاحية؟

شكيب أرسلان: ميلاده، نشأته وحياته
إن تمثلاتنا لشخصية شكيب أرسلان جاءت ثمرة تأمل واستقراء في حقائق الفكر والسياسة في العالم العربي الإسلامي، بدءا من الثلث الأخير من القرن 19م إلى النصف الأول من القرن 20م. هذه الحقبة التاريخية الزاهرة بالحركات الفكرية الإصلاحية الساعية إلى إقامة صرح النهضة العربية الإسلامية المعاصر.

1. ميلاده
ولد في قصبة شويفات (من جبل لبنان) في سنة 1869 درس دراسته الأولية على مر سنين في الشويفات، وعين عنوب، ثم دخل مدرسة الأمير كان في حارة العمروسية، ودخل سنة 1879 مدرسة الحكمة ببيروت.
إشتغل أول عهده بالوظائف العمومية لكن عند وفاة والده في أواخر سنة 1878 ولاه باشا مديرية الشويفات التي كان يتولاها والده، وقد بقي فيها سنتين، ثم سافر إلى مصر سنة 1890 ولازم فيها الشيخ محمد عبده وخلقته التي كانت تشمل على الليثي وسعد زغلول وحفني ناصف وعلي يوسف وأحمد زكي.
توفي في بيروت سنة 1946 على إثر نزيف شرايين الدماغ لإجهاد نفسه لاستقبال الجماهير والزوار والرد على الرسائل.

2. نشأته
إن القراءة الاستقرائية لكتابات شكيب أرسلان الفكرية في حقول الشعر والأدب والتاريخ سمحت لنا باستكشاف عوامل ثلاث ساهمت في فاعلية نحت معالم الفكر الأرسلاني تنشئة وتكوينا وإنضاجه، وهي البيئة العائلية والثقافية في بيروت وحياته العملية.
• البيئة العائلية: إن البيئة العائلية التي نشأ فيها شكيب أرسلان هي التي هيئته بالدرجة الأولى لكي يكون مثقفا غزيرا بالعلم وواسع المعرفة وذلك لتوفرها على المناخ الملائم لتحصيل المعارف والإقبال عليها. فآل أرسلان عائلة سرية، لها مجد سياسي وفكري في مسارها التاريخي، إذ كان أبوه حمود مجيدا للعربية، حاذقا للتركية، واسع المعرفة بالأدب والشعر اللذين كانت له فيهما مساهمات عديدة لإثراء مكتبته العربية من جهة وشغفه بالمطالعة من جهة ثانية، مما ساهم في تنمية الفكر الثقافي لدى شكيب أرسلان لتثقف عائلته.
• البيئة الثقافية في بيروت: لقد وجد شكيب أرسلان في حركية بيئة بيروت الثقافية وخصوبة نشاطها الفكري والأدبي ضالته المنشودة لفكره التواق إلى العلم والمعرفة، ومواهبه الفطرية المتحفزة للبروز لما كان يمتاز به نبوغ مبكر وولعه بالتحصيل والدرس مما حفزه على الإقبال على دوافع العلم والمعرفة، ينهل منها سواء في فصول الدراسة بمدرسة الحكمة ببيروت، أو المدرسة السلطانية أو من خلال حضوره لما كان ينعقد في المجالس المتنوعة النشاط التي كان يرتديها.
• البيئة العملية: تميزت حياة شكيب أرسلان العملية بتعدد الأسفار وكثرة التنقلات بين مختلف الأقطار الشرقية والغربية؛ وسواء كانت هذه الأسفار تدخل في إطار المهمات الرسمية أو السياحية، فإن شكيب أرسلان قد أفاد منها كل الإفادة فتعمقت ثقافته واتسعت معارفه ونضج فكره، فقد كان يبادر عند نزوله بأي مدينة بزيارة مكتباتها قصد استكشاف ما تزخر به من كنوز التراث العربي القديم علوما وآدابا، وذلك سواء في زيارته لمصر أو اسطنبول، وألمانيا، والنمسا، وفرنسا، والبلقان، والحجاز، وروسيا، والأندلس، كان يأخذ نفسه بالاطلاع على كنوز المخطوطات العربية النفيسة والنادرة والمتناثرة في المتاحف والمكتبات، والتي تؤلف ثروة الأمة العربية الأدبية والعلمية والحضارية بصفة عامة، فيستفيد منها و يسعى لإفادة الأقسام العربية الإسلامية وذلك بتحقيقها والتعريف بها وبقيمتها.
كما تميزت حياته بمسارها السياسي حيث أنه لم يكن منذ حداثته بعيدا عما يجري في المنطقة العربية الإسلامية، والساحة العالمية من أحداث سياسية جسام بل كان عميق الوعي بها شديد التفاعل معها، ومثلت قضية استقلال سوريا ولبنان عن الاستعمار الفرنسي إحدى القناعات الثابتة في مذهبه السياسي وفي مسيرته النضالية، إذ لم يحل منفاه بجنيف أو لوزان أو برلين دون متابعته بانتظام الأحداث التي كان وطنه -سوريا ولبنان- مسرحا لها خاصة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حيث تم إجلاء الأتراك عن أراضيه، ونهاية حكمهم به وانتصاب قوات الاحتلال الفرنسي الذي تبعته عديد الانتفاضات العربية الرافضة لتواصل المد الأوروبي بالمنطقة العربية، فلم يبق محايدا إزاء زحمة الأحداث هذه والتحولات والتقلبات في حياة سوريا ولبنان بل اقتنع بالإسهام فيها نشدانا لتحقيق الإستقلال والنهضة.

ولقد تكرست معالم نضاله في سبيل تحقيق هذا المآرب في حركية دائرة متنوعة النشاط، ضمن مشاركته الفعالة في أعمال المؤتمر السوري الفلسطيني الذي التأم بجنيف في غضون شهر غشت من سنة 1921م لدراسة مطلب استقلال سوريا وفلسطين عن الوصاية الفرنسية والبريطانية ولتحسيس عصبة الأمم بجوهر القضية السورية-الفليسطينية. وبذلك متلث قضية استقلال سوريا ولبنان إحدى الأساسيات في نضاله السياسي راسما بهذا أصدق رمز على مدى وفائه لوطنه وفرط حبه له، ولعل ما أرهق أحاسيسه هذه وقوى وشائجه نحوه طول سنوات المنفى التي قضاها مغتربات في الديار الأوروبية.

3. حياته
في فترة ما بين الثلث الأخير من القرن 19 والنصف الأول من القرن العشرين، تمكنت الدول الأوروبية من بسط نفوذها على أغلب الأفكار المشرقية والمغاربية، وفشلت الجامعة الإسلامية في إيقاظ الوعي القومي العربي، وبرزت فكرة الاستقلال عن الخلافة العثمانية المنهارة -التي اصطلح عليها “بالرجل المريض“- والتي صاحبتها الدعوة إلى الوحدة العربية كما جاءت أثناءها الحرب العالمية الأولى التي انتهت بالمزيد من تقسيم الأقطار العربية بين الدول الأوروبية العظمى وإعلان عصبة الأمم الوصاية البريطانية على فلسطين، وانهار أثنائها حكم سلاطين آل عثمان وحذفت خلافتهم لقيام الحركة الكمالية، ثم كان ارتقاء بعض الدول العربية المستعمرة إلى الإستقلال، وأخيرا اندلاع الحرب العالمية الثانية.
لقد شهد الأمير شكيب أرسلان طيلة فترة مابين سنتي (1869_1946) كل هذه الحركات الإصلاحية والوقائع السياسية العالمية منها والإقليمية، وتفاعل مع كل ما أفرزته من أوضاع يتصدرها كل من التخلف ومحاولة الانعتاق منه، والاستعمار والسعي إلى التحرر من قيود سيطرته، وقد سمح له حضوره المكثف في ساحة الثقافة العربية المعاصرة وحركيته الدائرة في حقل النضال السياسي بأن يكون نمطا متفردا بين أعلام الفكر وزعماء السياسة في عصره، فجمع بين شواكل فكرية متنوعة الأجناس وغريزة العطاء وغيرة الفائدة، وبين حركية نشاط سياسي لا تغتر ولا تنقطع؛ وبذلك نجد شكيب أرسلان:
• مفكرا: نظم شعرا حديثا وامتلك ناصية البيان فقلد إمارته، وأحيى نفائس التراث العربي الإسلامي وعصرها، وتناول أسفار تاريخ العرب والمسلمين القديم فاستقرأ خفايا أحداثه، حتى أنهم يعتبرونه مطلعا في إقامة صرح نهضتهم الحضارية المعاصرة التي يجب أن تكون في نظره امتدادا لما بلغه الأسلاف من شأن حضاري واستيعاب لما أدلى به الغربيون في العصر الحديث من تقدم ورقي.
• سياسيا: فإنه وعى حدث واقع الاستعمار الذي يعيشه وطنه لبنان، وبقية الأفكار العربية الإسلامية عمقت وعيه السياسي، إذ أن مطالعة الصحف العربية والمتابعة لكل ما يحدث على الساحة العربية والعالمية من الوقائع السياسية أهله ليكون من رواد مقاومة الاستعمار الغربي بالبلاد العربية الإسلامية، سواء بوطنه الأم لبنان أو عندما نفي من طرف السلطات الاستعمارية الفرنسية، حين اتخذ من جنيف مقرا لإصدار كل كتاباته الساخنة عن الاستعمار وأفكاره.

شكيب أرسلان حياته النضالية ” من أجل اسقلال الأمة العربية” و مجهوداته الإصلاحية

1. شكيب أرسلان والحركة الكمالية
كان شكيب أرسلان أول من عارض قيام الحركة الكمالية واحتج على سياسة مصطفى كمال أتاتورك وحكومته بأنقرة، بعد أن اكتشف مقاصدهم التي يمكن تحديدها في ثلاثة نقاط:
• تعزيز الصلات الروحية التي كانت تربط الأتراك بالشرطة العثمانية، واتقاء رجوع آل عثمان للسلطة والقضاء على الجمهورية التركية الحديثة النشأة، ولن يتسنى تحقيق مثل هذا المأرب إلا بإبطال العمل بالشريعة الإسلامية تعاليما وأحكاما وطقوسا، مع إلغاء جميع مؤسساتها.
• فصل الترك عن المسلمين والعرب وإقناعهم بأن انحطاطهم وليد الروابط التي كانت جامعة بينهم وبين العروبة والإسلام.
• إقناع أوروبا بالتفريج على تركيا كليا وأنه صار من العدل إلحاقها بالعائلة الأوروبية.

لكل هذا، خص شكيب أرسلان كمال أتاتورك وجماعته بخسيس النعوت، فهم “الفئة الدراسة”، “رواد الاستعمار”، “الملحدون”، “المسلمون الجغرافيون”، “أعداء الإسلام” و “المسلمون الكاذبون”.
ولم يكن موقف شكيب أرسلان المناهض للحركة الكمالية انطباعيا بقدر ما كان منطقيا يعتمد جملة من القرائن التي تفنذ مزاعم قادة هذه الحركة الذين يسعون لبثها في أوساط الرعية كذبا وبهتانا لإظهارها بمظهر الحركة الثورية على مظاهر التخلف والانحطاط التي تطبع حياة الأتراك منذ أحقاب تاريخية عريقة نتيجة اعتناقهم للإسلام وعملهم بمبادئه واحتكامهم إلى تعاليم أحكامه، ولقد كشف شكيب أرسلان المآخذ الأساسية لسياسة الحركة الكمالية مدعما موقفه بالحجج و البراهين.

2. خطأ فهم الكماليين لمبدأ فصل الدين عن السياسة في أوروبا
ركز الكماليون في دعوتهم على مبدأ أساسي يقوم على وجوب فصل الدين عن السياسة اقتداء بالحكومات الأوروبية، ففهموا من هذا أنه بإهمال الدين تجرد كل حكومات الشعوب من كل صبغة دينية وبذلك يقصر اهتمامها على الأمور المدنية فحسب، فأبرز شكيب أرسلان خطأ فهم الكماليين لمبدأ فصل الدين عن السياسة في أوروبا، والذي هو في الحقيقة فصل ظاهري، أما في الجوهر فإن هذه الحكومات هي أشد الدول حماية للنصرانية عموما سواء تعلق الأمر بدولة فرنسا أو مملكة بلجيكا أو إنجلترا أو ألمانيا، فكلها تعمل في الداخل للحفاظ على سلامة مقومات الديانة المسيحية، وفي الخارج تعمل على نشرها بين الشعوب التي تستعمرها. ثم بين أن هذا الفصل هو فصل إداري، كما أن هناك فواصل في سائر فروع الإدارة بعضها عن بعض، لأنه ليس من المعقول أن الدول الراقية لا تكترث لأمور الدين وهو الذي عليه يحيا ويموت السواد الأعظم من رعاياها فالدولة التي لا تهتم للأمور الدينية عن الأمور الدنيوية فذلك ضروري لا نزاع فيه لأنه لا يفيد أن تنفصل الدولة عن الدين، بحيث أن ذلك يعني أن الدولة أهملة تعزيز قومها.

وبهذا يكشف شكيب أرسلان أن فصل الدين عن السياسة لا يفيد في البلاد الراقية، وإهمال الدين وإبطال تعاليمه وممارسته بين أفراد الأمة يعني تهميش الأمة بأكملها.

3. شكيب أرسلان والقضية الفلسطينية
“أوصيكم بفلسطين”
مثلت القضية الفلسطينية شاغلا هاما في مسيرة نضال شكيب أرسلان السياسي ضد الاستعمار الأوروبي عامة، والإنجليزي الصهيوني على وجه أخص، فاقتنعا منه عربيا مسلما بعدالتها وشرعية النضال في سبيل تحرير فلسطين الأرض السليبة.
وتكمن أهمية تصور شكيب أرسلان للقضية الفلسطينية وموقفه منها في أنه كان أول من تفطن منذ 1912 إلى المخطط الاستعماري التوسعي الذي كانت تعده كل من إنجلترا وفرنسا قصد مزيد من تقسيم البلاد العربية الإسلامية بينهما بالتساوي والتراضي في كنف الكتمان والتستر. وينص هذا المخطط الذي توصل شكيب أرسلان إليه أن تكون كل من مصر وفلسطين من نصيب إنجلترا وتكون سوريا ولبنان والأردن من نصيب فرنسا.

4. الإيخاء الفلسطيني- الفلسطيني
يعتقد شكيب أرسلان أن التضامن العربي الإسلامي لا يمكن أن يحقق أهدافه المرجوة مالم يجد الأرضية المناسبة والتي يجسدها تضامن الفلسطينيين فيما بينهم بتجاوز خلافاتهم الإيديولوجية ومنافستهم حول الزعامة والرئاسة والقيادة، ذلك أن هذه الانقسامات تفيد إنجلترا والمحتل الصهيوني وتلحق بالغ الضرر بالفلسطينيين، وعبر عن هذه الحقيقة المرة بقوله “….. إن اختلاف أعيان فلسطين و منافستهم ومزاحمتهم على العضوية والرئاسة وما شابه ذلك قد قوى آمال الإنجليز واليهود على إنفاذ البرنامج الصهيوني و أضرت جدا بالعرب، ويا للأسف….”.

5. حملة شكيب أرسلان على الحركة الصهيونية
يتمثل منطلق محاولة شكيب أرسلان على الحركة الصهيونية في رفضه لقطعية استلاب استقلال الدول الضعيفة والتعدي على حرمتها الترابية وامتهان كرامة شعوبها، كما عمل على دحض كل الافتراءات التي سعا قادتها إلى ترويجها في مختلف أوساط الرأي العام العالمي حتى يكسب حركتهم سعة من الشرعية الدولية والرد على مزاعم وإلزام أحد مؤسسي الدولة الصهيونية التحيز على النظرية التالية “بما أن اليهود أقوام مشتتة في كل البلاد المعمورة لابد لجمع شتاتهم من إيجاد أرض يستوطنون بها حتى يكون شعبا مستقلا له وطنه ودولته وكيانه بعيدا عن شبح الفناء الذي ضل يهددهم لحقب زمنية متجذرة في القدم”، ويبرز شكيب أرسلان هشاشة أسس هذه النظرية الخاطئة من منطلقها بقوله “إذا كان الله قد حكم على اليهود بأن يتشتتوا و لا تكون لهم مملكة، أفيكون العرب المسؤولين عن ذلك؟ بل لا يجب إعادة شمل هذه الأمة على ظهر العرب و من كيس العرب” .

يتبع…

شكيب أرسلان وجهوده الإصلاحية “الجزء الأول”

زكرياء العمراني

طالب باحث في التاريخ الوسيط سلك الماستر