بين المادة والروح

الانسان خليفة الله في ارضه

نعلم جميعا، كبارا وصغارا أن إبن آدم خليفة آلله في أرضه،بحسب نص الآية 29 من سورة البقرة(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّے جَاعِلٞ فِے اِ۬لَارْضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُّفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ اُ۬لدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَۖ ).أي خلق ليسعى أن يكون صورة كاملة للفضائل والمثل العليا والقيم الروحية التي أوجدها الله وأحب أن يتصف بها الإنسان، الذي وهبه شعاعا من نوره، ونفخ فيه من روحه، وركبه من المادة، مطالبا منه أن يجعل عقله حكما بين جسمه وروحه في صراعهما العنيف والمتسلسل.

لكن بما أن الجانب المادي في الحياة براق، يخطف الأبصار ويستهوي القلوب والأفكار، فإنه يكاد يحجب الجانب الروحي ويغطيه لولا نور العقل الذي يقاومه ويصارعه صراعا مستمرا، ويشق لصاحبه طريقه الأمثل وسط الظلمات والعراقيل، وبالتالي فإن الإنسان إنسان بروحه قبل كل شيء، لذا وجب بموجب العقل والمنطق السليم أن يهتم بروحه أكثر من إهتمامه بجسده، وأن يبحث عن كل ما من شأنه أن يغذي هذه الروح ويهذبها ويرتفع بها عن الشهوات وحقارتها ويحلق بها في جو المعنويات التي هو منها وإليها.

لكن لا أريد أن يفهم من كلامي هذا أن الإنسان يجب أن يكون ملاكا، فالله جلت قدرته جعل المخلوقات الحية على ثلاثة أنواع: أولها الملائكة، تانيها الإنسان وتالثها الحيوان.وقد وضع الإنسان وسط هذا الثالوث العجيب، بين الملائكة والحيوانات لكون الإنسان قد جمع بين العقل والشهوة،فطلب منه أن يغلب عقله على شهوته،
فإذا فشل فغلب شهوته على عقله كان أحط من الحيوان، وإذا وفق فغلب عقله على شهوته كان أفضل من الملائكة، وهذا هو السر في كون الله سبحانه وتعالى أمر ملائكته بالسجود لآدم عليه السلام يوم نفخ فيه من روحه فسجدوا.(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ) الآية33من سورة البقرة

وما أمرهم الله بالسجود لآدم إلا لكونه خلق لأمر عظيم ولكونه عرضت عليه الأمانة العظمى فحملها وتكفل بها، قل تعالى:(اِنَّا عَرَضْنَا اَ۬لَامَانَةَ عَلَي اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَّحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَاۖ وَحَمَلَهَا اَ۬لِانسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُوماٗ جَهُولاٗ، لِّيُعَذِّبَ اَ۬للَّهُ اُ۬لْمُنَٰفِقِينَ وَالْمُنَٰفِقَٰتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَٰتِ وَيَتُوبَ اَ۬للَّهُ عَلَي اَ۬لْمُومِنِينَ وَالْمُومِنَٰتِۖ وَكَانَ اَ۬للَّهُ غَفُوراٗ رَّحِيماًۖ )الآيتين 72 و73 من سورة الأحزاب.

لقد خلقت إذن أيها الإنسان لأمر عظيم، خلقت لتحارب نفسك الأمارة بالسوء وترغمها على إتباع الطريق المستقيم، وتردها عن غيها كلما جمحت بك نحو الشهوات والملذات… خلقت لتلج سبيل الله وتعكف على كل ما من شأنه أن يقربك منه عز وجل خلقت للسعي في الدنيا والعمل فيها، لتبحث عن ربك بالاطلاع على آياته، وبالتأمل والتفكر في مخلوقاته التي تتجلى فيها عظمته ووحدانية وربوبيته… خلقت لتعبد الله وتتعلق به وتملأ قلبك بحبه، وتملأ وقتك أيضا بذكره.

و بالتالي نجد أنه بغية الوصول الى هذا الهدف الأسمى تبنى بعض الناس الطريقة الصوفية؛ التي لا تعتبر مذهبا كما يزعم الكثيرون، وإنما هي طريقة دعائمها مقتبسة من الدين والسنة تعمل على تنقية الروح وتحريرها وخلاصها من كل الشوائب كالغل والحقد والحسد….

فكما قال فيها “الكلاباذي” في كتابه “التعرف “:(سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها ونقاء آثارها).
كما أنه لا يقصد بالصوفية الزهد في الحياة وإنما هي حالة يتعلق قلب صاحبها بالباقي الأحد الحي الذي لا يموت، مع سعيه في الحياة والعمل على صلاح وعمارة الأرض.

ختاما، فلنسعى في الحياة الدنيا لأن سعينا سيرى، ولنسامح أنفسنا إذا ما غلبنا حب الشهوات على تركها، لكن لنجاهدها أيضا ونحثها على الموازنة في حياتنا بين الروح والمادة، ولنشيد جسرا خفيا بيننا وبين مولانا عساه يكون لنا شفيعا يوم اللقاء ولنملأ قلبنا بحب الحبيب الصمد الله عز وجل.

وكما قالت رابعة العدوية -التي تعتبر أول امرأة صوفية-:“اني جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي”.

بين المادة والروح

مريم الإدريسي حسني

طالبة بالمدرسة العليا للأساتذة سنة تانية تخصص الفيزياء و الكيمياء عضوة في المنتدي الوسائطي لشباب fomej وكذلك في مجلس الإدارة لنادي علم الفلك في مدرستي