الصفعة التي أنارت بصيرة العالم

عندما نكون في غاية الامتنان للفيروس

كان يسير بسرعة مهولة، لا ينتبه إلى العديد من التفاصيل المهمة في الحياة؛ تخلّى عن المبادئ والقيم والأخلاق، غض بصره عن مشاعر وأحاسيس الناس. مهووس بالتكنولوجيا وتطورها السريع، لاتهمه أوجاع الناس ومشاكلهم. يعتبر الاقتصاد أهم قطاع؛ فيوليه كل الأهمية؛ لترى بين كل ليلة وضحاها مصانع متطورة جديدة، يلوث دخانها البيئة ويتسبب في أزمات بيئية خطيرة. صنع أحدث الأسلحة للتدمير وتشريد الأسر، ليشهد تاريخ البشرية أكثر الحروب بشاعة.

إنه عالمنا يا سادة! ماضٍ في تعجرُفه، إِلى أن أتَته صَفعةٌ أسقطته أرضًا، “صَفعة كورونا“، تلك التي أصابته بالصَّدمةِ والحيرةِ، فوقفَ مذهولًا أمامها، إذ لم تكن له أي مخططات مسبقة، فأجبرته على التَّوقف. لتسمع آذان الكون آهاتِ العالم بسبب هذه الصفعة.
ظل مرتطماً بالأرض، إلى أن استعاد اتّزانه، بعد أن دفن على تلك الأرض آلاف الجثث. أعاد ترتيب ملفات خزانته، لكن هذه المرة بطريقة عقلانية وعادلة. تعلم العالم دروسا، وتعلم سكانه أكثر منه، فقد كانت صفعة “كورونا” كصفعة أستاذ لتلميذه، علّمته دروسا ستظل منقوشة في ذاكرته.
أعطى الأهمية لباقي القطاعات، لأنه شَهِد توقفاً شاملاً بدون استثناء، حتى الاقتصاد الذي كان يعتبره عجلة دفعه للأمام، فلم ينقذه في لحظته العويصة تلك، إلاّ قطاع الطب الذي لطالما همَّشه واعتبره ثانويًا.
أنشأ مستشفيات مجهزة، تضم معدات طبية متطورة، تسهل عمل الأطباء في التعامل مع المرضى.
شجّع كل رواد مجال التعليم (التلاميذ، الطلاب والأساتذة…) على استخدام التكنولوجيا، فقد كانت هناك دول لا تدرج التكنولوجيا أبداً في تعليمها، لكنها أضحت تهتم بـ”رقمنة” التعليم، كونها استعصى عليها مواكبة التعليم عن بُعد، فواجهت مشاكل عدة؛ سواء مشاكل في إنشاء منصات وتطبيقات، أو مشاكل في استخدامها. بغض النظر عن الدول التي كانت تستخدم هذه التقنية من قبل، حتى هي طوّرتها وحسَّنَتْ من جودتها.

التفت العالم -أيضاً- للبحث العلمي الذي كان يتناساه، بيد أنه أبصر بأمّ عينه دوره في النهوض بالبلدان وسيرها في طريق التقدم والازدهار، والخروج من مستنقع الأزمات، وبذلك طوَّره ونهض به، فوفر الإمكانيات اللازمة، وقدم الدعم للباحثين.

اكتسب سكان العالم، أيضا، سلوكيات إيجابية؛ كالالتزام باحترام الأماكن العامة، يدخلون بنظام وانضباطٍ، محترمين مَسافة أمانٍ دون أي ازدحام. يحترمون الوقت والمواعيد، لأنهم يعلمون قيمة الوقت. قدروا قيمة الأهل والصحاب، وأهميتهم بجانبهم، فلا يعرف الإنسان قيمة الشيء إلا بعد فقدانه! كما أيقنوا جيدا قيمة إنجاز كل عمل في مكانه وزمانه، فكم واحدا أجل أعماله قبل الحجر الصحي ليندم بعد ذلك، لأن التقدم التكنولوجي لا يستطيع تعويض شعور عيش اللحظة في زمانها ومكانها.

بيوت الله لا تخلوا من المصلين، صفوف مكتملة في كل أوقات الصلاة، يكفي أن يصدح آذان الإمام في الأرجاء، ليجتمع الناس من كل حدب وصوب، في كل شهور السنة وليس فقط في شهر رمضان.
علاقات اجتماعية متطورة؛ تعاون وتضامن وتآزر لم أرى لمثيله من قبل، مساعدة القوي للضعيف، الغني للفقير، رأفة ورحمة لم أعهدها في البشر.
فرحة الناس بالطبيعة ونقائها الفاتن، جمال افتقدوه طيلة أشهر الحجر الصحي، فقد قدروا قيمة هذه النعمة العظيمة، مثلما قدروا باقي النعم. ترى الصغار يعانقون الطبيعة، فتتأرجح أرجلهم الصغيرة على أعشاب ربيع فات أوانه. كان هؤلاء الأطفال الضحايا الأبرياء، حُبسوا في المنازل، وهم لا يَعلمون السبب، يُفكرون فقط فِي رِفاقهم، ولُعبهم؛ هذه هي براءة الطفولة.
بَيْد أنه برزت مواهبهم، وطوروها، فهذه طريقتهم للتخفيف عن أنفسهم، كما اهتمت الدولة بهم؛ شجعتهم ودعمتهم، وقدمت جوائز للمتفوقين بينهم. هنا أيضا نلاحظ جليا إنتاج العالم لأطفال يعرفون جيدا تطوير مهاراتهم، وحسن تدبير أوقاتهم، والتعامل الإيجابي مع الأزمات… هكذا ربى العالم جيل الغد، لنرى فيهم شباب النهضة والحضارة، شباب واعد وواعي. وعلى ذكر سيرة الشباب، مُدَّت يد العون لهم فأدركوا دورهم الفعال في المجتمع، وأنهم أمل المستقبل، وكذا ووعوا تماما بميادين تخصصاتهم التي تواكب متطلبات سوق الشغل. وإن الدولة التي لا تنهض بشبابها فقد اقترب أجلها.

تنفسَتِ البيئة التي كانت تعاني من تلوث شديد، فقد ظلت لشهور بعيدة عن أعدائها المصانع. تحسن حالها بطريقة لم يستطع الإنسان لمدة سنوات أن يعالج مشاكلها. خنق فيروس كورونا رئتي الإنسان، وتنفست رئتا البيئة؛ أزهرت أنواع ورود أخاذة وجذابة، تفوح منها عطور تنعش الأرواح، وتزهر في القلوب، هواء نقي عليل، خال من السموم، يداعب وجوه البشر فينعشهم…
إنه عالم ما بعد الكورونا يا سادة !
من منظوري الخيالي، هكذا أبصرت العالم؛ بنظرة إيجابية أتوقُ يوما أن يصبح العالم هكذا، بل أفضل !

شكراً “كوفيد19”!