عصارة سفرياتي

سفرٌ بين طَيّـات الكتب وثنايا الأوراق


سافرتُ من بلد إلى آخر، ومن عاصمة إلى أخرى، مررت بالمدن والقرى في شتى أنحاء العالم. تسلّقت الجبال، انحدرت في السهول، شمَمْتُ الأزهار الفوّاحة، سمعت أطرب الأغاني وأعذبها، أبصرت الشلالات الشاهقة، ولمست الرمال الذهبية…

قطعت الكيلومترات برّاً، بحراً، وجواً؛ ركبت أسرع وأبطأ القطارات؛ قطارات تعود إلى عهد أمجاد العثمانيين، لا زالت تستخدم الفحم الحجري إلى حد الساعة، وأخرى تسير بسرعة الضوء؛ فتقطع بك المسافات في لمح البصر. فإن كنتَ على عجلة، حملت نفسك في القطار السريع لتحلق كالطيور مع سرعته، أما إذا كنت تملك وقتا، فعليك بقطارات التاريخ؛ التي تعيد معها حقبة ذهبية عاشتها البشرية.

حملت نفسي تارة فوق الغيوم، على متن طائرة، حينها يبدو العالم قرية صغيرة، وتارة أخرى على متن باخرة، حينها أسمع انكسارات الأمواج وهي ترتطم بالسفن، واستنشقت هواء البحر العليل، الذي أضع فيه مع كل حركة زفير كومة من الهموم.

شربت القهوة التركية في إسطنبول أمام “آية صوفيا”، لأرتشف معها عبق تاريخ العثمانيين وفتوحاتهم.
تذوقت في إيطاليا “البيتزا”، فأدركت أنها ليست مجرد نوع من المعجّنات فقط، بل تجاوزت ذلك بكثير.
سِرْتُ قرب الأهرامات في مصر، ذهلت بسحرها، شعرت بعظمة الفراعنة على الأرض، فقد خلّفوا آثارا خُلّدَت في عجائب الدنيا السبع.

زرت قصر “باكنغهام“، الذي تعيش به العائلة الملكية للمملكة المتحدة، وتقربت من شخصية الملكة “إليزابيث الثانية”، التي حكمت أطول مدة على تاريخ التاج البريطاني، اكتشفت سر حبها للحياة والألوان الزاهية، والتزامها بالإيتيكيت الملكي، ومحافظتها على صحتها رغم عمرها المتقدّم.

على حافة شاطئ جزيرة هاواي، غاصت قدماي في الرمال الذهبية الحارقة، لكن صفاء الشاطئ وهدوءه تبرد غليلي ذاك. لطالما حدّثوني عن إيجابية الشاطئ، وكمية الطاقة المفعمة بالحياة التي يبعثها في النفس، لكني خلتها مبالغة، إلى أن تخللتني راحة وسكون، فأيقنت أنها حقيقة.

أما في قرطبة، وقصر الحمراء البديع، هناك حضارة الأندلس تَحكي عن نفسها في كل زخرفةٍ أو حديقةٍ، أما إنِ استمعت لمقطوعة عزف من الطرب الأندلسي، خِلْتها تسحب نفسك إلى سماء لتحلق بروحك في العنان.

وفي بلاد الجليد والصقع والثلوج، روسيا، ارتجفتُ واقشعرَّ بدني من شدة برودة الطقس، لكن دفء الحديث مع روايات دوستويفسكي، أزال عني كل ذلك، حينها قرأت كل رواياته العميقة التي تحتاج تحليلا مع نهاية كل سطر.
وإنْ وصلتَ إلى بلاد الصين، فعليك رؤية “سور الصين العظيم”؛ سور ممتد من الشمال إلى الغرب، بناه أحرار الصين لحماية بلادهم، وبدأوه من البر وحتى البحر. فتكاد تحبس أنفاسك من شدة عظمته.

في فلسطين، بلاد الشهداء، شهدتُ بعيني على مقاومة الأحرار ودفاعهم عن أراضيهم المسلوبة. وفي القدس؛ هناك سَكينة الروح والقلب، لن أمَلَّ أبدا من أن أرابط مع المرابطات سنوات عمري كلها، كي ألقي بجبيني على سجادة مسجد الأقصى الطاهر، فأحس باطمئنان كأني أول مرة أصلي، وأيقنت سبب رباطهم وجهادهم، وتحملهم لاعتداء الصهاينة. وعلّمني هذا الشعب الصامد أن الشيء المسلوب بالقوة لا يعود إلا بالقوة.

رحلتُ وارتحلت بين أزمنة وأمكنة مختلفة، جلت العالم في ماضيه وحاضره، كما استشرفتُ المستقبل.
كيف سافرت إلى كل هذا؟ أجل، سافرتُ من غرفتي في وسط كومة من الكتب والأوراق، في كل صفحة من كتُبي التاريخية، السياحية، والروائية…شاهدت العالم في كل تقلباته، وبين كل حضاراته.

بالطبع؛ لا يزال هناك العديد من البقاع التي أتوق لاستكشافها، لكنني حققت حلما ظلَّ يراودني، حلم السفر حول العالم، لكن من غرفة تتكون من أربعة جدران، من داخلها غُصتُ في خبايا التاريخ والحضارات، واكتشفت الثقافات، وحاورت مفكّري وفنّاني وعظماء التاريخ.
نعم لم توفّر لي الإمكانيات لدفع تكاليف السفر حول العالم، لكني وفرت تكاليف اقتناء كتب تجول بي إلى حيث أريد، فقط قدرتي على الشعور بالأحاسيس وتخيل المكان الذي وصفه الكاتب، تملأ تلك الثغرة.

قرأتُ وارتقيت، قرأت إلى أن وصلت إلى مرحلة الشعور بالمقروء، هناك شعرت بلذّة القراءة.
قرأت عن رحلات ابن بطوطة، ومغامرات السندباد، وجولات رحّالة خطت قدماه بقاع الأرض.
فالقراءة ليست مجرد تقليب في الصفحات فقط؛ بل هي عيش حياة بين كل صفحة وكتاب؛ إحساس وشعور بكل ما هو مكتوب أو غير مكتوب مختبئ بين السطور.
وعصارة سَفرياتي هذه كلها؛ التنوع سر الكون، وقد كان الإنسان، وما زال، وسيظل، يكتشف أشياء خالفت المعهود عنده، وهكذا تتكامل الثقافات والشعوب لتشكل العالم.

زينب يعكوبي

عصارة سفرياتي