تذكرة سفر

رحلة خارج الزمان و المكان

عشية هذا اليوم بعدما تذكرت أن بستان الأحلام يحتاج إلى سقي تربته، أخذت لوازم السقي واتجهت للبستان الملقب بـ”ببستان ايت يوسف“، الذي يقع ما بين مقبرة ايت سيدي علي وضريح سيدي علي ومحمد. قمت بعملية السقي بنجاح، وسافرت طويلا بدون تذكرة، ولكن قبل ذلك قمت بإجراء مجموعة من الاتصالات وبعثت مجموعة من الرسائل لعلها تشهد بوداع لهذه المنطقة. بعدما كنت أحاور الشجر والنبات وما أراه في هذا الدوار الذي أقطن به.

أحن كثيرا إلى شخص كان يوصيني بأن أسعى للوصول إلى المراتب العليا، وكيف لي أن أخبره بأنني على مشارفها وهو الأن تحث التراب؟ أراقب قبره وأتمعن تلك اللوحة التي كتب فيها “هذا قبر المرحوم صالح“، تمنيت لو كان بجانبي ليرى ما وصلت إليه بفضل نصائحه القيمة التي كانت بمثابة شحنة تبث بداخلي روح المثابرة. ولكن بعد مغادرته لنا منذ خمس سنوات، لم أنس الزيارات التي كنت أقوم بها في أحلامي. فالأمر يحتاج الآن لزيارة رسمية لكي أخبره بكل ما حصل طيلة هته السنوات الأخيرة التي تذوقت فيها طعم الحلو والمر وعشتها بأفراحها وأحزانها…. حان الوقت لأخبره بكل شيء.

مرت السنين بسرعة ووصلت لمرحلة يجب عليَّ أن أعتن فيها بصحتي كما كان يوصيني أخي لكن الإمكانيات المادية دائما كانت تقف كحاجزا أمامي ولا أستطيع أن أسدد كل المصاريف التي أحتاجها من أجل العلاج. ففي صيف 2018 بعدما أحسست بإرهاق شديد ظهرت أعراضه على ملامحي، فلم أعد أستطيع كتمان ما بداخلي أكثر، بل أصبح بعض الأصدقاء يشعرون بما أعانيه في صمت…وأنذاك لاحظ أخي المهدي تدهور حالتي الصحية فقرر إجباري على العلاج وأقنعني بأنه سيتكلف بالمصاريف.

أخدت موعدا لدى طبيبة بمراكش حيث سأبدأ علاجي بعد أن أخبرت أخي الأكبر صالح عن سبب سفري… بمجرد إجراء الفحوصات اللازمة لدى الطبيبة وجهتني على عجلة إلى طبيب أخر بمدينة الدار البيضاء حيث توجد المعدات الطبية الأكثر دقة مسلمة لي رسالة فحواها يتضمن نوع العلاج الذي سأتلقاه هناك. إنتظرت حتى أشرف الموسم الدراسي على الإنتهاء ثم قصدت عيادة الطبيب المتواجدة بوسط العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء التي اعتبر نفسي لاجئا فيها نظرا لزيارتي الأولى لها.

في عشية ذاك اليوم الذي امتزجت فيه كل مشاعر الحزن والصدمات، تلقيت خبر إجراء عملية جراحية باهظة الثمن بسبب إهمالي لصحتي التي تعد من الضروريات في الحياة لكن كيف لي أن أعتني بها وبلدتنا لا تتوفر سوى على مستوصف واحد؟ كلما لجأت إليه أجد الطبيب في عطلة وأحيانا أجد باب المستوصف قد أغلق والمرضى يحتجون لما يعانونه جراء غياب اللوازم الضرورية بهذا المستوصف اللعين الذي يتواجد بالجنوب الشرقي المنسي بمنطقة تزارين.

في بادئ الأمر فوضت أمري إلى خالقي، وفكرت من أين سأجلب كل ما طلب مني من مال، حتى ولو أخبرني أخي أنه سيتكلف، فالثمن الذي سمعته لم يكن في الحسبان…. كنت أفكر طيلة تلك الأيام وبعد مرور شهر تقريبا استطعت أن أتدبر الأمر فأخذت سلفا لدى مجموعة من الأصدقاء بعدما طلبت مرارا وتكرارا من الطبيب أن يخفض قليلا من ثمن العملية ،وخلال هذه الاثناء كنت أتنقل ما بين الرباط والدار البيضاء فأصبحت أكتشف شيئا فشيئا شوارع هته المدينة.

بعد خروجي من عيادة الطبيب لأتجه صوب المصحة التي لا أعرف مكانها بالضبط سوى من خلال تلك الورقة التي تبين موقعها، ونظرا لبعدها كان يتوجب عليَّ أن أتنقل عبر سيارة الأجرة لكنني كلما استوقفت سائقا ليقلني إلا ورفض طلبي، فلجأت للبحث في هاتفي عن برنامج تحديد المكان الذي سيساعدني للوصول إليها، فقررت البحث عنها مشيا على الأقدام وأنا أسأل هذا وذاك لكي لا أتيه بين شوارع هته المدينة، حتى وجدت المصحة،

أخذت موعدا لإجراء العملية بعد أن قمت بقياس ضغط القلب وإجراء بعض التحاليل والفحوصات اللازمة.ثم ذهبت لوكالة البريد بنك لسحب الأموال فحدث نقاش حاد بيني وبين أحد الموظفين لكوني اشتبهت له بشخص كان قد وقع في نزاع سابق معه، مما جعل مدير المصرف يتدخل ليحل الأمر متأسفا لما وقع.

بعدها استقبلت في نفس اليوم ابن أختي وخالتي اللذان سيرافقاني طيلة فترة العملية،في محطة “ولاد زيان”لشراء تذكرة سفر كي أسافر إلى جوار أخي. ثم أجريت اتصالا مع كل أفراد عائلتي خوفا من ألا أسمع صوتهم مرة أخرى بكل حزن وأسى، ثم توجهنا صوب الفندق حيث المبيت تلك الليلة استعدادا للسفر في اليوم الموالي .

حل الصباح، الساعة تشير إلى التاسعة ،موعد السفر، لكن هذه المرة ليس داخل المحطة، وإنما بين جدران المصحة حيث الطاقم الطبي حولي يراقب كل صغيرة وكبيرة من أجل الإقلاع….آخر ما تذكرته في ذلك اليوم هو حقن تلك الممرضة البشوشة حقنة في جسدي لتعلن عن فقدان الوعي بتدرج حتى وصلت إلى غرفة العمليات، حيث يوجد طاقم طبي في انتظاري لينطلق بي القطار إلى جوار أخي بعدما تمعنت في ذلك الممرض الذي حاول أن يهدأ من أعصابي ويخلق ابتسامتي من جديد ويتمنى لي سفرا يحمل في جوفه شفاء لي ولكافة المرضى مودعا ذلك الطاقم بقبلة حارة أحسست بها من طرف الممرض، بعد أن طلب مني أن أستنشق ذلك الأكسجين لكي أغيب عن الوعي، ثم أعطى الانطلاقة لرحلة السفر لزيارة الأحبة ومعانقتهم تحث التراب…

أول ما وصلت إلى المكان المعلوم وجدت جدتي مع خالة أبي بالقرب من أخي، ألقيت السلام وقبلت يد كل واحدة منهما لأعانق أخي بحرارة، نظرا لغيابه الطويل عني أردت أن أقص عليه كل الأحداث التي مرت معي حلوها ومرها منذ رحيله عنا…فرحت كثيرا لرؤيته إلا أنني تذكرت أنني لم أخبر والدي عن هذه الرحلة، وأخاف ألا تصلهما أخباري إذا لم يخبرهما أخي الذي تركته في انتظاري، والذي تكلف بمصاريف هذه الرحلة التي دامت ما يقارب اتنتا عشرة ساعة.

إستفقت على همسات خالتي وهي تناديني ظنا مني أنها لحقت بي في سفري إلا أنها كانت تطلب مني أن أستفيق بعد أن أتم الطبيب عمله وغادر المصحة دون أن يراها، وبينما استعدت وعي أخبرتها أنني التقيت بجدتي وأخي وقضيت معهما وقتا وجيزا إلا أن التذكرة التي سافرت بها خولت لي أن أراهم هذه المرة وأقص عليهم ما جرى بعد رحيلهم وأعود أدراجي .

كان قد أتم الطبيب العملية ولكن النتيجة لم تكن كما توقعتها فمن خلال الفحوصات التي أجريتها بعد عودتي إلى عيادته بعد يوم من العملية تفاجأت أن كل المال الذي خسرته من أجلها ذهب سدا،لكن ما جعلني أتقبل هته الخسارة هي رؤية الأحبة وبالخصوص أخي الذي اشتقت له بعد غيابه الطويل.

تذكرة سفر

إسماعيل ايت لحساين

أعمل مدرس للغة العربية بمدرسة خاصة، وطالب باحث في سلك الماجيستر بكلية الأداب والعلوم الانسانية جامعة القاضي عياض