“عبق الماضي” الجزء الثاني

نحن نعتاد على الحب ولا نقع فيه

لقراءة الجزء السابق: الجزء الأول


(…) لقد عشت ضمن الحدود التي رسمها لي الآخرون، لم تكن لدي أي توقعات حقيقية. تعلمت أن أحب من خلال اللمس، لكن لم يعد هذا هو الحال، ثمة من يمكنك أن تحب بغض النظر عن الزمان والمكان، إذا وجدت من تحب عانقه بالشارع ثم قبله عند الناصية، ثم دع الناس ليروا هذا الحب ويعتبرونه مثالا ثم ليعرفوا كم هو معزز للحياة، لدرجة تدفعهم للتفكير بأن الأمر كان يستحق كل المعاناة.
فبعض من الجمل كالسيوف تتكرر من حين لآخر تجعلني أعود نحو الوراء كأن الأمر وقع الآن ثم أتمنى لو عدت بعقارب الزمن…

فأنا تعيس رغم الابتسامة المزيفة التي من المفروض أن أظهرها لكم جميعا طوال مدة اللقاء. تمنيت في ذلك الوقت فعل أي شيء لمسح دموع حبيبتي حين بكت، لا أبدو من هذا النوع لكن حين أنظر نحو المرآة أدرك جيدا أن وجهي تغير ما بين الماضي قبل أن أحب والآن… كنت المكان الوحيد أو بالأحرى ملجئي والطريق الوحيد الذي أعرفه عندما يصبح ما حولي يحكمني بقبضته من العنق، كنت بمثابة الأوكسجين يعيدني للحياة من جديد.
تخليت عنها فكنت أيضا متنفسها الوحيد وأصابني الهوس على غرباء كانوا فيما مضى أعز الناس لكن الأقنعة لم تدم لهم طويلا.

في رسالة موجهة إليها بضمير الغائب على لسان من حاولت عدة مرات وتكللت كلها بالفشل: أرجوك أتوسك إليك، أخبريه بأنه لم يعد من أولوياتك وأنه أصبح بالنسبة لك ذكرى كلما أخدك الحنين للماضي تفكرين بالحاضر، أخبريه بأن الحياة مسارها طويل بأننا سنجد من يجعلنا نحيا من جديد ونتنفس.
إنه يصدقك أنت فقط ولا أحد غيرك يعاملنا جميعا كالأموات، أنت تعرفين ورأيت ذلك. أخبريه بأنني وقعت بحبه وظهرت بأحلى الأشياء لدي لأجله لكن كل ما قال أني لا زلت أعشقها وأحبها ولن أنساها رغم كل شيء.
تمنيت لمرة واحد أن يكون صادقا معي لأنه أفسد مشاعري.

أن تحب لمرة واحدة يكفي لما أحاول إيصاله إليكم، فنحن جميعا نتحول إلى حشد بلاد من تقدير ما لدينا عند رحيله.
قبل تعارفنا كنت مثلها تماما لكنها كانت بصفة أخرى، فلم يكن لدي مكان أحتاج للذهاب إليه، لا أنظر إلى وجوه الناس ولا أبحث عن أي أحد لم يكن لوقتي أهمية فكنت ذاهبا إلى أي مكان كأي شخص آخر لم يكن هناك أحد في أي مكان حيث كنت ذاهبا، لم يكن لدي شيء لأقوله وإذا فتحت فمي ألعن؛ نظرت للجميع كأنهم غرباء حتى المقربون مني.

هل اعتقدت بأنها كانت صدفة تكلمي معك ذلك اليوم؟
طبعا لا لأني أعتبر ذلك قدرا محتوما، أنت محقة كانت لدي مصلحة فعلا.
لكن ماهي مصلحتي من فتاة لم أتعرف عليها سوى أيام أنذاك.
لكن الحقيقة تقول بأني أردتك أنت، كان من الصعب ألا أقبل جراحك ذلك اليوم.
عندما التقيتك قبل سفري ذلك الصباح طوال الوقت رأيت حبي مكدسا بعيناك ثم ما أرسلته وأنا بالطريق، جميع هذه الأشياء شجعتني على الاستمرار بالمحاولة إلى مالا نهاية.

سألتني ذات مرة لماذا تلقبني بهذه الأسامي … ؟
فأجبتك بكل ابتسامة “لأنهم يا حبيبتي بكل بساطة نادرون، وعندما وجدتك أنت كان من اللازم أن أخبرك بذلك”.
عندما تكلمت معك ذلك اليوم بتلك العصبية ولفظته من كلامي ثم تصرفاتي الطائشة المتكررة بكل مرة، قطعت أملي منك لأني علمت أن المركب أوشك على الغرق.

نحن الأحياء ليس لدينا المزيد لنقدمه، لا أنكر أنك أتيت وجراحك مضمدة لكنني لم أكن أعرف أين جراحي، كان لدي كل شيء في جعبتي لأجلك ما عدا الوداع، فوضعته سرا أثناء نومك لأنه كان آخر الاحتمالات بالنسبة لي أن أتخلى عنك بمنتصف الطريق لأني أدرك جيدا ذلك الشعور.
لمن يريدون الوقوع بحب شخص لم يدن من الحب مند وقت طويل أنصحكم فاتركوه لأن جانبه المحب غرق بالقلب السابق ولن ينساه مهما حصل لأني أعيش بهذه الوضعية.
لا يوجد حب من أول نظرة، لأن كل شيء كان معدا من الناحية السيكولوجية.
فالوقوع في الحب يعني ملاقاة الصورة المتخيلة التي رسمنها بعقولنا، لأننا نبني في خيالنا شخصا نادرا في روعته، وعندما نقابل من نعتقد أنه يطابق تلك الصورة المتخيلة ننساق في محبته ونحن نزعم أن ذلك من أول نظرة أو لقاء.
فهذا ما حصل معي ذلك اليوم وأنت مرتدية للأبيض والأسود أدركت للوهلة الأولى أني وقعت بحبك وجعلني أراقب ذلك بعدما ذهب كل واحد إلى سبيله.

إننا ننسى لقاءنا الأول حيث تبادلنا أطراف الحديث وأول كلمة قلناها، ماذا كانوا يرتدون عندما تقابلنا للمرة الأولى؟

اختصارا، نحن نعتاد على الحب.
لكن ألم يكن الحب هو ما ارتدوه يوم رأيناهم لأول مرة؟ اليوم الذي اعتدنا عليه، خسرناه.

يتبع…

“عبق الماضي” الجزء الثاني

سعد الدين زياد

لست سوى مجرد كاتب هاوي عاشق للحروف و محب لتكوين لوحة فنية نابعة من الأعماق تجذبني إليها لعلها تخفف من الجروح الغائرة التي لم تشفى بعد رغم مرور كل هذه الأيام.