“تاريخ سجلماسة” الجزء الثاني

التعريف بسجلماسة تاريخيا

لقراءة الجزء السابق: سجلماسة جغرافيا


المبحث الثاني
سجلماسة من الناحية التاريخية
أ‌- إشكالية التسمية
إهتمت المصادر الجغرافية القديمة بمدينة سجلماسة تبعا للدور الذي لعبته في التجارة الصحراوية وتم تحديد تسميتها لكنها عرفت إشكالية في هذه التسمية تبعا لاختلافات الباحثين أو الجغرافيين والإخباريين الذين بحثوا في المنطقة، حيث نجد القلقشندي قد أشار إلى كلمة سجلماسة بقوله “بكسر السين مهملة وكسر الجيم والسكون وفتح الميم ثم ألف وسين مهملة مفتوحة وهاء في الآخر”، وفي نفس الموضوع ذكر الحسن الوزان في كتابه وصف إفريقيا “أن مؤسس هذه المدينة حسب بعض مؤلفينا قائد روماني ذهب من موريطانيا حتى نوميديا ثم زحف شطر الغرب حتى ماسة ولأنها كانت كالخاتم الذي يسجل نهاية فتوحاته فحرف هذا الإسم بعد ذلك وتحول إلى سجلماسة”.

وذكر ماك كوك “أن الكلمة مركبة من شقين سجل وماسة، وقال أن لفظ سجل جاء في القرآن بدون ياء وجاء بالياء أيضا “سجيل”، وقد اختلف أهل التفسير في معنى اللفظين وفي أصالتهما وتعريبهما فقالوا في الأول “سجل” وأن من معانيه الصك، وكتاب العهد، والرجل بلغة الحبشة… وقالوا في الثاني “سجيل” وأن من معانيه الصلب شديد وحجارة كالمدر وحجارة من طين وعلى هذا المعنى يكون عربيا أصيلا”. وبالتالي هذا التعليل القائل بأصالة كلمة سجيل في اللغة العربية يدفع إلى الاعتقاد بأن الشق الأول من كلمة سجلماسة عربي فيكون وليد فترة الفتوحات الإسلامية لشمال إفريقيا، أما الشق الثاني فهو اسم لمدينة بالمناطق الجنوبية بالمغرب الأقصى وهي مدينة ماسة، وعليه تكون هذه الكلمة مركبة من سجيل وماسة، حسب أصحاب الرأي.

أما الأستاذ العربي مزين فقد استنتج في تحليله لكلمة سجلماسة أن تركيبها غريب عن اللغة اللاتينية التي جاء بتسميتها من كلمة سجلا وسجلوم نسبة لمدينة سجلكوم -وهي مدينة تواجدت في موريطانيا الرومانية- والعربية التي اقتبست إسمها من سجيل وماسة، لكن العربي مزين أكد أن اشتقاقها مرتبط باللغة البربرية ويظهر ذلك من خلال قوله “إذا نحن أخذنا المجوعة الصوتية س.ج.ل.م.س التي يتكون منها اسم سجلماسة واستبدلنا حرف الجيم بحرف الكاف كطريقة للاستقراء سنلاحظ بأن اللغة البربرية تحتوي على ألفاظ كثيرة نجد فيها كلا أو بعضا، و مسلسة هذه الحروف كأكلموس، إكلماس، إسكلمس، أكلمام، إكلمان، أوكماس، أو نجد أيضا ألميس، تالمست، أولماس، ماست، وبصفة عامة فإننا نشاهد في السلسة الأولى المقطع المكون من الأصوات أ.ك، وفي السلسلة الثانية ليس لنا العكس سوى هذا الصوت م.أ.س، وجمع أسماء الأماكن التي يتكون منها هذا الصوت في السلسلتين الأولى والثانية، تعني أماكن ثرية بالماء الشيء الذي يجعلنا نفكر أن التركيبة الصوتية م.أ.س كانت تعني الماء في اللغة البربرية قبل أن تتأثر باللغة العربية“.

وتستعمل كلمة تافيلالت للدلالة على هذه المنطقة في بعض المصادر التاريخية، حيث نجد لها إشكاليات مختلفة بين الاستعمال وعدمه، كما نجد أن الحسن الوزان الذي ألف كتابه وصف إفريقيا خلال النصف الأول من القرن العاشر الهجري لم يستعمل هذا المصطلح للدلالة على هذه المنطقة وإنما كان يوظف اسم سجلماسة فيكون بذلك التغيير الذي لحق التسمية قد ظهر بعد الفترة التي كان فيها حسب هذا الرأي، والحقيقة أن لفظ تافيلالت كان يطلق على هذه المنطقة من قبل الفترة المشار إليها حيث نجد ابن خلدون الذي عاش خلال القرن الثامن الهجري ذكرها أثناء حديثه عن مواطن أولاد حسين وأولاد أبي الحسين من عرب المعقل ولكن استعماله لم يتداول بكثرة في المصادر إلا في الفترة السعدية.

لكن حسب رواية ساكنة المنطقة، فإن تاريخ ظهور هذه التسمية يعود إلى العصر الوسيط أي الفترة التي شهدت قدوم الشرفاء العلويين إلى هذه المناطق في أواخر القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي وهذا اللفظ تم اشتقاقه من كلمة أوفيوا من فعل وفى يفي ومعناها أوفوا بصيغة للأمر وهذه الكلمة هي التي كان يقولها الشريف المولى الحسن بن القاسم – القادم من الحجاز إلى سجلماسة- بعد استقراره بالمنطقة وعلم الساكنة طرق جديدة في الري بالمقابل تأدية ربع الغلة في حال نجاح فلاحتهم لكنهم بعد ذلك رفضوا وتنكروا لهذا الفعل، وأعطوه واد يسمى واد إيفلي كان يوجد فيه نبتة فليوا وبالتالي أصبح الحسن يقول لهم “أوفيوا” وهم يردون ب “لا لا” وبذلك سمي أهل المنطقة “بفيلالا” حسب المصطلح الدارجي وسميت المنطقة بتافيلالت.

عموما لقد اختفى اسم سجلماسة كما اختفت بقاياها عبر التاريخ ولم يذكر عند الساكنة إلا نادرا، واسم تافيلالت لم يعد يقتصر على كل مجالات سجلماسة وإنما فقط ما يوجد جنوب تيزيمي والممتدة حتى قصر تينغراس، هذا بالإضافة إلى إشكالية الخلط ما بين سجلماسة والريصاني على أنه هو سجلماسة وأنها لم تدمر، وهذا يدفعنا أكثر إلى الرغبة في معرفة إشكالية التأسيس لهذه المنطقة.

ب‌- إشكالية التأسيس
تنقسم الروايات الخاصة بتأسيس مدينة سجلماسة بين رأيين مختلفين أحدها يربط تأسيسها بالفترة الرومانية والآخر يربطها بالفترة الإسلامية، وذلك ما يجعل تاريخ تأسيس هذه المنطقة غير معروف بشكل دقيق، وأقدم الروايات الإسلامية التي هي رواية البكري تؤرخ لبناء سجلماسة بتاريخين مختلفين، وهذا نص كلامه “ومدينة سجلماسة بنيت سنة أربعين ومئة وبعمارتها خلت مدينة ترغة وبينهما يومان وبعمارتها خلت زيز أيضا” وفي مقام آخر أورد رواية حول تأسيس هذه المدينة بأن له علاقة مع أمراء خوارج الصفرية وقال “وملك بنو مدرار سجلماسة مئة وستين سن وكان فيهم أبو القاسم سمجوا بن واسول المكناسي أبو اليسع المذكور وجد مدرار لقي بإفريقية عكرمة مولى ابن العباس وسمع منه، وكان صاحب ماشية وكثيرا ما ينتجع موضع سجلماسة فاجتمع إليه قوم من الصفرية، فلما بلغوا أربعين رجلا قدموا على أنفسهم عيسى بن يزيد الأسود وولوه أمرهم، فشرعوا في بنيان سجلماسة وذلك سنة أربع ومئة…” ، ويكون قد ذكر تاريخين وهما 104 هـ/728 م و 140 هـ/757م.

نجد التاريخ الثاني مرتبطا بحادثة ثورة الربض الذي ذكر أن مدرار خرج أثنائها من الأندلس إلى سجلماسة بصفته حدادا، لكن كما هو معروف أن ثورة الربض تمت على مرحلتين بقرطبة عاصمة الأمويين زمان خلافة الحكم بن هشام بن محمد ابن عبد الرحمان. الأولى سنة 189 هـ/809م، والثانية سنة 202 هـ/818 م وكانت أعنف من سابقتها التي أسفرت على تشريد أهل الربض ومنهم من جاوز البحر إلى عدوة فاس. وعلى غرار هذا الأمر يرى ماك كوك أنه لا يمكن الاطمئنان إلى الرواية الشفوية ويجب التعامل معها كما نتعامل مع الروايات في أيامنا هذه.

مقابل ذلك نجد أن صاحب كتاب “الإستبصار” قد اتفق مع رواية البكري وذكر أن الذي أسسها هو “مدار بن عبد الله” وكان رجلا من أهل الحديث يقال انه لقي بإفريقية عكرمة ابن العباس وسمع منه وكان صاحب ماشية وكان كثيرا ما ينتجع سجلماسة…” وخلافا لذلك يرجع صاحب وصف إفريقيا تأسيسها إلى الفترة الرومانية كما ذكرنا آنفا وفي مقام آخر ذكر “حسب رواية أخرى هي في الواقع رواية الشعب ورواية البكري، فإن المدينة أسسها الإسكندر الكبير لفائدة المرضى والمعطوبين من جنوده” وكان مصدره بذلك هم ساكنة المنطقة خصوصا وأن هؤلاء لا زالوا يذكرونها إلى الآن ومنهم القصر الفوقاني وأولاد يحيى وأولاد حسين. بينما نجد أبو القاسم الزياني قد أرجع تأسيسها إلى فترة ما قبل الإسلام، حيث قال في ذلك “وأسس فزواطة وزناتة وقبائلهم قصور درعة وأسس بنومدرار مكناسة وسجلماسة قبل الإسلام ولما أسلموا كانوا على مذهب الإباضية” .

كل هذا يدفعنا إلى التساؤل ليس حول متى تأسست سجلماسة؟ أو إلى أي حد امتدت؟ وإنما كم مرة أعيد بناؤها؟
لا يكتنف الغموض تاريخ تأسيس سجلماسة فقط وإنما يتعداه إلى تاريخ انهيارها لأننا نجهل تفاصيل الأحداث التي جاءت على انهيارها ونهايتها، كما لا تسعفنا العملات التي ضربت بإقليمها على تحديد تاريخ انهيارها لأن أقدم ما هو متوفر يعود لأواخر القرن الثاني الهجري، الثامن الميلادي بالنسبة لدار السكة تدغة، وأواخر القرن الرابع الهجري، العاشر ميلادي بالنسبة لدار السكة بسجلماسة، غير أن الغالب على انهيارها هم الفاطميين في صراعاتهم مع سكان المنطقة كما تأتي بذلك مجموعة من المراجع.

بعد انهيارها لم يتبقى منها سوى مجموعة من الأسوار المحطمة والمهمشة وسور ضخم يدل على وجودها الحضاري الذي تحدثت عنه المصادر الإخبارية والجغرافية القديمة، ولم يتبقى سوى الدور الذي استمرت تلعبه طيلة الفترة التاريخية في مجالات تأسيسها إلى حدود اختفائها في فترة حكم المرينيين، والموضع الذي تظهر فيه هذه البقايا هو عبارة عن تلال وسط أراضي سهلية، يحد شمالا بالساقية المسماة “واد الشرفاء” وفي الغرب بواد زيز وفي الشرق الريصاني، وقصر أبو عام، وقصيبة لحدب، وفي الجنوب بقصر الكرينفود.

يتبع…

“تاريخ سجلماسة” الجزء الثاني

زكرياء العمراني

طالب باحث في التاريخ الوسيط سلك الماستر