مقاربات فلسفية لماهية الدولة

عن النظرية الهيغلية حول الدولة والمجتمع

تعتبر مقاربة مسألة الدولة متنوعة بطبيعتها، ويرجع ذلك إلى تنوع زوايا النظر إليها وتنوع واختلاف الأدوات المنهجية الخاصة بدراستها.


في هذا الصدد، يذهب المفكر عبد الله العروي مميزا بين هذه الأنماط من المقاربة “من يتساءل عن هدف الدولة يسبح في المطلقات ويصرف نظره عن الظروف الزمنية والمكانية، فينظر ويتفلسف، ومن يتساءل عن التطور يصف أطوار الدولة، أي أشكالها المتتابعة؛ فينطق بمنطق المؤرخين؛ ومن يتساءل عن وظيفة الدولة، يحاول أن يحلل آلياتها بالنظر إلى محيطها الاجتماعي فيتكلم كلام الاجتماعيات والأنسياء، إذا ألحقنا بهذه المحاور القانون… أمكن لنا أن نقول أن الدولة تدرس حسب أربعة مناهج: القانون، الفلسفة، التاريخ، الاجتماعيات” …لكل منهج طريقة متميزة في التعامل مع المواد المتوفرة للباحثين” …ولا يمكن للفيلسوف أن يكون تطوريا وللعالم الاجتماعي أن يكون استنباطيا ولا للمؤرخ أن يكون افتراضيا لكل سؤال منهج ولكل منهج سؤال” .

إن الانطلاق من سؤال ماهية الدولة يجعلنا نقف أمام العديد من الآراء التي كان لها تأثير واسع في مجرى في التاريخ البشري، فهناك اتجاه يرى الدولة من خلال منطلقات خاصة، حيث تقوم بخدمة الفرد دون أن تحجب عنه الغايات التي وجد من أجلها. وبالتالي تصبح الدولة في هذا الاتجاه خادمة للأخلاق، وهو ما يؤكده العروي “على مستوى أكثر تجريدا فإن الشريعة… تتجسد فيها تلك القيم. تخاطب الشريعة في آخر تحليل الفرد والأخلاق هي أخلاق الفرد” . وبالتالي فأصحاب هذا الاتجاه تعددوا في التاريخ بداية من الرواقيين إلى أنصار القانون الطبيعي، من أغسطين إلى فقهاء الإسلام.

في حين أن الاتجاه الثاني يرى أن الإنسان وليد الطبيعة، فهو يصبو إليها لكي تمده بالوسائل الضرورية التي من أبرزها التعاون، “إن قوة الإنسان هي بالأساس قوة جماعية إذا نظرنا إليها من زاوية الحاضر وجدناها تنشأ عن التعاون، وإذا نظرنا من زاوية الماضي وجدناها مدخرة في العادات، في الثقافة في اللغة” . فالفرد إذن خير بطبعه، يقول فيخته في نفس هذا السياق “إني أعلم أنكم ستتذكرون لا محالة أن بني آدم شرير وهذا ما لم أتوصل إلى إقناع نفسي به”. والطبيعة عبارة عن مجموعة من القوانين المتلازمة، وبهذا فالدولة ما هي إلا من ظواهر هذا الاجتماع الطبيعي، مما يحيلنا نحو جون لوك الذي يبدو له أن الدولة قد نشأة نشأت بشرية خالصة، ما حدا به حدو هوبز إلى افتراض وجود حالة الطبيعة، التي تسبق نشأة الدولة؛ ولكنه، على خلاف هوبز، تصور أن الأفراد كانوا في هذه الحالة، ينعمون بالحرية والمساواة.

بذلك تمثل الدولة جزءا من المجتمع وتنبثق منه وتتخذ لها مكانة لكي تقوم بدور تنظيمي له وهو ما يمكن التعبير عنه “إن الدولة ظاهرة طبيعية، أي صادرة عن النظام الاجتماعي بوصفه نظاما طبيعيا ولذلك تطابق المجتمع ولا تناقضه لأن وظيفتها أن تخدم المجتمع والفرد وهما مبدأ الوجود الاجتماعي الطبيعي”.
الملاحظ أن كلا الاتجاهين ظل يقف على عتبة فكرة الدولة، فالعروي يرى أن بداية التفكير في الدولة يكون عندما نفكر في مقتضيات ما سماه “الإرادة الجماعية” فما يسبق هذه المعادلة فهو تمهيد وليس من صلب الموضوع”.

لكن ما هي فكرة الدولة خارج هذان الاتجاهان ؟ سوف يوجه هذا السؤال لهيغل لمحاولة بالإجابة عنه، باعتباره هو نقطة الوصل بين الفلسفة الكلاسيكية والفلسفة العصرية.

يخلص هيغل، من خلال مسار من البرهنة إلى تعريف جامع للدولة يحدده كالآتي: “الدولة هي الفكرة الأخلاقية الموضوعية التي تتحقق، وهي الروح الأخلاقية بصفتها إرادة جوهرية تتجلي واضحة لذاتها، تعرف ذاتها، وتفكر بذاتها، وتنجز ما تعرف؛ لأنها تعرفه”.

يضفي هيغل على قضية الدولة جانبا أخلاقيا يقترب من أخلاقيات الآلهة، فالدولة هي “الجوهر الأخلاقي الذي وصل إلى الوعي بذاته، إنها تجمع في داخلها بين الأسرة وبين المجتمع المدني، فالوحدة الموجودة في الأسرة على شكل عاطفة الحب في جوهر الدولة، وإنها الجوهر الذي -بوساطة المبدأ الثاني الإرادة، الذي يدرك ويكون قانونا فعالا بذاته- يلغى شكل الكلية الواعية لنفسها”.

إن هذه المماثلة بين الدولة والآلهة قائمة كون هيغل يرى في الدولة التجسيد الحي للحق والعدل، والدولة “ليست هي صوت الله فحسب؛ بل هي الله متجسدا، وبما أن الله (أو الروح) قد تجلى، وظل يتجلى في التاريخ، وبما أن الدولة هي غاية التطور التاريخي ونهايته، فإن الدولة تكون إذا، هي التجلي الأسمى للعقل والحق”.

يؤاخذ على فكرة هيغل على مفهوم الدولة، التي ينشدها الأخير، كونها “تتحكم في العقيدة والوجدان بواسطة التربية والقمع، بما أنها تتدخل في كل نشاط مادي أو ذهني، كونها تعادي الفرد؛ لأنها ترى فيه، فقط، نزوعا دائما إلى الشر، هذا صحيح، لكنه موجود أيضا، في دولة البابا، وفي دولة الثورة الفرنسية. لا يستقيم، إذا، نقد نظرية هيغل إلا باستبعاده مفهوم الدولة ذاته، كما تفعل الفوضوية. وحتى في حالة اعتناقنا هذا المذهب، يبقى السؤال مطروحا: أليس اعتبار الإنسان خارج الظروف الإنسانية، وتصور الحرية خارج الدولة، أسطورتين طوباويتين”. الظاهر، أن التعريف الذي يختزله هيغل عن الدولة، هو تصور مثالي لها؛ فالدولة باعتبارها ظاهرة اجتماعية، لا يمكن تصور الفرد خارجها، أو التمييز بين الدولة والمجتمع. يفكر هيغل في الدولة من جانبين، الحفاظ على وجود الفرد وحريته من جهة والحفاظ على وجودها من جهة ثانية؛ ويعطي هيغل الحق للدولة في فرض أفكارها وقانونها على الأفراد وكذا استعمال القوة إذا لزم الأمر.

ليست الدولة –في- ذاتها مبنية على مصلحة الفرد، وليس هدفها الدفاع عن المجتمع المدني. بيد أنها لا تعادي تلك المصلحة، إنها تحتضن منظمات مكلفة بالسهر عليها . بالتالي فالنظرية الهيغلية، ترى في الدولة حلا للاستلاب السياسي، الدولة قوة فعلية؛ قادرة على حل تناقضات المجتمع المدني ضمن نظام عقلاني أسمى.

مقاربات فلسفية لماهية الدولة

إسماعيل مستاكو

طالب باحث بماستر القانون الإداري وعلم الإدارة