نربي الأمل

الأمل وسط الخراب والانهيار

هنا، عند منحدرات التلال
أمام الغروب وفوهة الوقت
قرب بساتين مقطوعة الظل
نفعل ما يفعل السجناء
وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل
عند انتهاء هذا المقطع بالضبط، أضغط على زر الحاسوب كي أوقف تشغيل القصيدة.

أزيل الحاسوب من فوق ركبتَي ببطء، أضعه فوق الخزانة جانبا، أتمدد على جنب السرير، أكرر بيني وبين نفسي نفس العبارة الأخيرة لقصيدة درويش تلك؛ “نربي الأمل”. أقهقه لمدة، أغلق فمي بعدها ثم أصمت لدقائق وأعيد تكرار نفس العبارة الأخيرة بصوت أعلى عن الأول قليلا “نربي الأمل”، أخاطب نفسي في صمت؛ “لَم تكذب يا درويش، أصبت يا درويش، كنت على حق”، وأعود للقهقهة مرة أخرى.

أصمت بعد ثوان، أطأطئ رأسي قليلا، أرفعه نحو الأعلى وأحدق في زخرفة سقف الغرفة بتمعن، تثير انتباهي ذبابة وحيدة تدور لمدة حول المصباح ثم تقف بعدها على زجاجته الخارجية تلك، أتساءل قليلا عن قدرة تحملها لحرارة المصباح، فطاقة إضاءته مرتفعة قليلا زيادة على درجة الحرارة بين جدران الغرفة، لا أستغرق وقتا طويلا في التفكير بالأمر حتى يراودني سؤال آخر، ربما قد يكون أكثر جدية وفقا لاعتقادي، فأسأل نفسي بصوت مرتفع شيئا ما عن ذي قبل: “أ هي أيضا جالسة تربي الأمل مثلي ومثلك يا درويش؟ أ لها أيضا أمل أن تعيش بعد كل هذا العناء؟ أستستسلم يوما؟ أ من الممكن أن ينقطع حبل الأمل الذي تعلق عليه كل شيء فتطرح أرضا أسيرة وجريحة لكل ذكريات الماضي، ضحية إدراكها لكل هذا؟ أجبني يا درويش، أهي أيضا؟..”

فعلى سبيل الأمل، أملي، أملك عزيزي، وأمل كل التعساء المستائين، كل وحيد أدرك سواد هذا العالم البائس، على سبيل من آنستهم الموسيقى يوما، من يظهرون عكس ما يخفون، من لازالوا ولا يزالون يأملون التغيير لما هو أفضل، من يأملون أن ينعموا بالهدوء وسط هذه التراجيديا البائسة، من يأملون العيش يوما والتغيير لما هو أفضل، من هم جالسون يربون الأمل، فلي علاقة وطيدة دافئة به، علاقة أمضت سنوات ولا زالت مستمرة في المضي عاما بعد عام، يوما بعد يوم، صباحا بعد صباح، ثانية بعد ثانية، وطيدة حتى أني برمجت كل شيء يخصني على الأمل، عقلي، أفكاري، خيبات أملي، وحدتي، فشلي.. فغدوت أتنفس الأمل في كل شهيق يا عزيزي وأخرج بعض الألم الداخلي الحاد في كل زفير..

أعيش على أمل كل هذه السنوات، أدرس بأمل، أنام بأمل، آكل بأمل، حتى أني أستيقظ بأمل كل صباح مؤمنة أن اليوم سيتغير كل شيء، أن اليوم ليس كالأمس وأن الغد سيكون أفضل بكثير، بل وحتى أن كل ذلك الأمل كنت أنا السبب فيه، أنا نفسي، أنا من عززت وأعزز كل ذلك الأمل داخلي يا عزيزي، وقد أكون أكثر الكائنات تعلقا بحبل الأمل الهش ذاك، أضع رأسي وسط عقدته تلك كل هذه السنوات رغم إيماني الجازم بأنه مجرد كذبة لكل تعيس ومستاء، لكل من جفت ألوانه وازدهر سواده القاتم، لكل من أرهقه السقوط أرضا في كل محاولة والنهوض مجددا حتى فقد لذة الحياة، بل لكل من لم يذق طعم الحياة أساسا.
علاقة وطيدة حتى رغم يقيني أن حبل الأمل الذي أربط عنقي وسطه رخو وهش، أنه سيرفعني للأعلى قليلا ثم يطرحني أرضا يا درويش، رغم كل هذا لا أزال عند منحدرات التلال، أمام الغروب وفوهة الوقت، قرب بساتين مقطوعة الظل، أفعل ما يفعل السجناء والعاطلون عن العمل: أربي الأمل، نعم يا درويش! أربي أملا زائفا وحتى أني الآن أيضا ومجددا في هذا العالم البائس، وسط هذه الغرفة المعتمة، أستمع لقصائدك كأنها ملاذي الوحيد، متمددة على هذا السرير الدافئ، أربي الأمل يا درويش، أربي أملا كذي قبل وقد يكون أكثر قليلا.

و على سبيل الأمل مرة أخرى، أذكر مشهدا من أحد الأفلام، أحد أكثر الأفلام القريبة لقلبي نظرا لحبي اللامتناهي للتراجيديا والأفلام ذات النهايات التعيسة الحزينة كونها أكثر تمثيلا للواقع وسط هذا العالم، أذكر أن البطل كان يلعب دور رجل قروي فقير لا يملك شيئا غير أرض أجداده، إلا أنه لم يستطع استغلالها حتى لسد حاجياته اليومية نظرا لجفافها، فحاول البحث عن الماء في جوف الأرض لحفر بئر، ومن المحزن أن أمله بوجود الماء ظل يلاحقه رغم اقتناعه وإيمانه الجازم بعدم وجود ماء، حيث كان في كل صباح يحمل أدواته ويتجه بعزيمة وأمل زائف نحو الحفرة ليكمل حفرها بحثا أن الماء مجددا، حتى وجد نفسه في نهاية الفيلم وبعد كل ذلك الأمل والعناء قد حفر قبرا له قبل موته.

فقد صدقت يا درويش، جالسون نربي الأمل، نربي أملا زائفا على أمل زائف آخر، نصنع كذبة لأنفسنا غرض تصديقها كي ننسا واقعا مريرا، واقعا أسودا أبديا بحجة أمل زائف، إلا أنني أخشى التوقف عن الأمل، أخشى أن أستيقظ صباحا عاطلة عن الأمل غير قادرة عن التفكير بأمل مرة أخرى، عفوا يا درويش بل غير قادرة عن الكذب على نفسي ثانية، غير قادرة عن تقديم وعود زائفة لها كقبل، غير قادرة على إيهام عقلي بأن كل وعودي تلك ستحقق، أخشى أن أستيقظ يوما ما مؤمنة أن الغد سيمر كاليوم تماما كما مر الأمس، لن يتغير أي شيء.. أخشى أن أتعطل عن الأمل يا درويش، أن أسقط بعد كل ذلك الجري، أن أنهار بعد كل تلك الصلابة، أخشى العزوف عن زرع الأمل في نفس كل وحيد، حزين، مستاء، بائس، فاشل، كل من هو بحاجة لزرع حبات الأمل تلك في أرضه الجافة مثلي ومثلك تماما يا درويش، أخشى التوقف عن الأمل، نعم! أخشى وبشدة.

وهنا، عند منحدرات التلال
أمام الغروب و فوهة الوقت
قرب بساتين مقطوعة الظل
نفعل ما يفعل السجناء
و ما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل

أليس من السيء أن نعيش على أمل زائف؟ أمل غير موجود أساسا؟ كذبة نصنعها لأنفسنا ونصدقها بشغف كأطفال صغار للهروب من واقعنا الأبدي المرير، للهروب منا من أنفسنا، خيبات أملنا، وحدتنا وفشلنا يا درويش، أم أن الأكثر سوءا أن نتوقف على الأمل، عن الكذب مجددا، أن نعزُف عن تقديم الوعود، أن نقف عن ترديد عبارات “غدا سيكون أجمل”، “لا تقلق، لا بأس كل شيء سيمر”، “لا داعي للقلق، ستنسى كأنك لم تكن”…

أليس من العسير التحدث عن الأمل وسط كل ما نستشعره من خراب وانهيار يا درويش؟

نربي الأمل

Exit mobile version