محاولات يائسة

قصة قصيرة

وقف أمامه وهو يلهث ودقات قلبه تخفق بشدة لدرجة أنه استطاع رؤيتها وهي تتراقص من فوق قميصه الضيق.
– ما الذي جرى لك؟ هل تبعك “المخزن” أم ماذا؟
– نعم يا أبي، لقد استطعت الانفلات من قبضتهم، لكنهم قبضوا على “ولد العربي”.

أكمل كلماته وأردفها بقهقهة شريرة تنم عن انتصاره على “المخزن“، ثم رفع رأسه للأعلى حاسا بنوع من التفوق والقوة.
– اذهب واغسل يديك، ولا تخرج إلى زقاق الحي مرة أخرى لأنني لا أملك المال لكي أدفع عنك “البروسي”.
– لاتخف يا أبي، أنا رجل وأستطيع تدبر شؤوني، وزيادة على ذلك فرص العمل قليلة خصوصا في شهر رمضان ومنزلنا ضيق وإلا لما جلست بجنبات الحي.
– لقد حذرتك، والتحذير هو الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يقدمه رجل في مثل سني.

كانت هذه هي آخر إجابة ونصيحة في نفس الوقت لـ”با حماد” ثم انصرف متوجها ناحية المطبخ لكي يرى ما الذي أعدته ” مولات الدار” للفطور. لا شك أن فترة الحجر هذه لم تترك له أي فرصة لمزاولة عمله، ف “با حماد” رجل إسكافي يصلح أحذية الناس في حيه، وقد انقطع عن مزاولة حرفته منذ إعلان الحجر الصحي لعدة أسباب من بينها أن الناس لم تعد تخرج كثيرا وبالتالي فإن أحذيتهم لن تتمزق أو تتآكل بفعل إسفلت الشوارع أو حصى الأرض…، هذا دون إغفال أن باحماد بدأ يشتكي من المجلس الجماعي لمدينته في الأشهر التي سبقت إعلان الحجر بحجة أنهم لم يعدوا الشوارع بشكل جيد كما في باقي الأحياء المجاورة له بحكم أن العديد من أصدقائه الإسكافيين بدؤوا يستفيدون من هذه النقلة النوعية التي أحدثها إعداد الشوارع في أحيائهم، عكس حيه المليء بالتراب الأحمر الذي يجعل من الأحذية تتسخ لا تتآكل، وهذا الوضع الجلل يؤخر كثيرا من تآكل وتهالك قاع الأحذية في الحي الذي يقطن فيه مما أدخله في إفلاس دام مدة طويلة.

  • ما الذي أعددته لنا يا “كلثوم” اليوم؟
  • لايوجد شيء جديد، سوى بعض البطاطس المهروسة بزيت الزيتون.
  • ومن أين حصلت عليها؟
  • البطاطس.. لقد أعطتني جارتي “السعدية” بعضا منها.
  • اسمعي يا “كلثوم”، لقد حلمت البارحة برجل وقف أمام منزلنا بسيارة فارهة، ثم بدأ ينادي بصوت عال: “با حماد، واا با حماد، أريدك أن تصلح لي حذائي”؛ فخرجت مسرعا من المنزل متوجها نحوه، وأعطاني حذاءً بني اللون ثم بعد ذلك مد لي ورقة من فئة المائة درهم، وربت على كتفي بيديه الناعمتين وابتسم لي ابتسامة باردة ثم غادر.
  • إنه فأل خير يا رجلي العزيز، لكن ألم تتعرف على ملامح هذا الرجل؟ ربما قد يكون ” لمقدم صالح ” أو رئيس الجماعة.
  • كل ما أتذكره هو وجهه المكتنز وابتسامته الباردة. على أي، لقد سمعت أحد الشيوخ ذات مرة يقول بأن المرء اذا ما حلم بورقة من فئة المائة درهم فإن حاله سيستقر نفسيا وماديا، لأن اللون البني الذي تصطبغ به هذه الورقة يدل على لون الأرض التي تتميز بالاستقرار والنظام.
  • لكن يا “زماني”، لا تنسى بأن الأرض يضربها الزلزال كما وقع في أكادير منذ مدة طويلة.
  • لا يهم، سوف أذهب للعمل، سأحمل أغراضي وأدوات عملي وأجلس أمام المنزل لعل وعسى أن يأتي هذا الشخص لكي أصلح له حذاءه ويعطيني مائة درهم كما أعطاني إياها في الحلم. لابد أنه رجل سخي، لقد بدأت أحب هذا الرجل يا ” كلثومتي”.
  • هيا أسرع، لعله مر في الصباح ولم يجدك.

توجه الى حقيبته الباهثة اللون، ثم نفض منها الغبار الذي التصق بها، وأزال من على جنباتها بعض خيوط العنكبوت، ثم حمل في يده اليسرى كرسيه المعد من الخشب. ابتعد قليلا عن باب المنزل وجلس ينتظر زبونه الغني.
مرت الدقائق والساعات ولم يظهر بعد. بقي جالسا في مكانه إلى حدود أذان المغرب، ثم حمل محفظته وكرسيه متوجها صوب المائدة لكي يفترس البطاطس المهروسة.
لكن في اليوم التالي نهض باكرا، لأنه اعتقد بأن زبونه مر البارحة باكرا ولم يجده. ونفس ما وقع له البارحة وقع له اليوم، حيث لم يظهر أي زبون بل فقط أشعة الشمس المتطفلة التي كسرت برودة ظل الشجرة التي كان يستمتع بها وبعض البعوض الذي كان يأنسه من حين إلى آخر بلدغاته المباغتة.

مرت الأيام والأسابيع ولم يأت أي زبون لكي يصلح حذاءه عند “با حماد”، ومن شدة انتظاره بدأ يفقد الأمل في قدوم زبونه الغني وبدأت أحلام المائة درهم تتبدد شيئا فشيئا. لكن وبعد مرور ثلاثة أسابيع من الانتظار، ظهر القايد صالح هو ورجاله فجأة، وسأله عن ما الذي يفعله في فترة انتشار الوباء في الشارع، علما أنه قد مر في أحد الأيام الخوالي أمام منزل “با حماد” وحذره من عدم الجلوس خارج بيته. لكن “با حماد” رد عليه والخوف يملأ صدره:
– سيدي صالح، هل تريدني أن أصلح لك حذاءك ؟
– هيا انهض وابتعد من هنا، اذهب إلى بيتك، وإذا ما وجدتك هنا مرة أخرى سوف أعاقبك بطريقتي الخاصة.
– أرجوك سيدي صالح، لا أملك ولا درهما واحدا، دعني أجلس هنا، إني في أمس الحاجة لبعض المال لكي أشتري بعض الدقيق وزيت الزيتون.
– أنت لا تطيع “المخزن” إذن. “شاف محمد”، قم بحمله من مكانه، سيذهب لكي يبيت اليوم في المخفر.
– سيدي صالح، سأذهب معك، لكن بشرط أن تجعلني أصلح حذاءك.
– سأعطيك حذائي في المخفر لكي تصلحه….

محاولات يائسة

عصام نكادي

طالب باحث في شعبة علم الاجتماع