أرجوك أمهلني

قصة قصيرة عن وفاة مأساوية

لقد كان مريبا حقا، أن يأتيني اتصال في ذلك الوقت يحمل أخبارا كتلك…لا أدري كيف قضيت تلك الليلة بعدما أقفلت خط الهاتف، وكان علي الإنتظار حتى الصباح، ولم يكن بداخلي صبر حتى يبزغ الفجر لأجد وسيلة نقل تقلني إلى حيث أبي، لكني انتظرت على مرارة…
لم أشأ أن أترك للوساوس حظا، آملة في غد أفضل وحال أحسن. لكن صوت أختي التي أَجْرَتْ معي آخر مكالمة هاتفية في حدود العاشرة والنصف ليلا، لم يكن ذا فأل طيب…يتملكني الخوف بعدها، يمر يسيرا من الوقت، أشعر ببرد الثبات يضمد فؤادي مثل يد حنونة تربط عليه مهدئة، تغيب عني ثم أعود، تتردد كلمات أختي على مسمعي مرة تلو أخرى، ألمس خوفها وغريب كلامها…
أبي محال أن يعود مرة أخرى ، أخذوه إلى المشفى وقد ساءت حالته. أتفحص الساعة تقارب منتصف الليل، فيكبر خوفي وافقد الأمل في إيجاد حل للسفر ليلا. أستسلم للخيار الأوحد، وهو انتظار الصباح، ويا له من صباح لم تشرق علي شمسه وإن بدت ساطعة في أعالي السماء.
أناجي أبي البعيد عني جسدا والقريب مني روحا، أرجوك يا أبتي حاول مرة أخرى، أرجوك أمهلني أياما أخر!
ومع انعدام أية وسيلة للنقل صباح الإثنين ذاك، لم أجد بدا من انتظار الحافلة، ولم تكن تقلع حتى الحادية عشرة صباحا، مما جعل النار تدب في أوصالي جميعها..كادت الحافلة تفوتني لولا رحمة هبت من السماء كغيث بعد قحط، فلحقت بها، أو لحقت بي، لم أكن أنتبه من منا سبق الآخر!.
أخذت مقعدي في الحافلة بعد لأي، كنت ألهث من فرط العياء والركض ما يقرب النصف ساعة، تاركة الحافلة من ورائي. كنت كعصفور بَلّلَهُ المطر، يرتعش من البرد وخوفا من فقد جناحيه المبتلتين!
أشعر وكأن الحافلة لا تتحرك إلا كطفل يحبو…أتفقد هاتفي بشكل ايقاعي، لا أجد ما يقلق، لكن قلبي يأبى أن يطمئن، أتذكر كلمات أختي إثر مكالمة الأمس، أبكي بشكل غريب، أتخيل أبي وقد فارق الحياة..لا أصدق. أرغب في التحليق سريعا لأعانق أبي وأرى نظراته وإن بدت على وشك الأفول. يهب نسيم جميل، استغربت تواجده داخل الحافلة المهترئة، ولم أنتبه حتى وجدتني وأبي نسرع الخطى لأخذ صورة سويا بمدينة تارجيست، يسألني بعدها مبتسما:
كيف بدت الصورة؟
يجيب قبلي:
– رائعة، احتفيظي بها دائما ، وسرعان ما أسمع صوته الجهوري يخترق أسوار مختبر التصوير، بل الحافلة. لا أدري كيف انتشلت من عالمي، وكيف سمحت لي الذاكرة المثقلة بالخوف في تلك اللحظات بتلك الزيارة. توقفت الحافلة لنصف ساعة كاملة، مما أضاف لي هما جديدا.
تلك كانت حياته، حتى يومه الإثنين إذ اشتكى من ألم ينغص عليه استمرارها العادي، وكان مرضا لم يمهله طويلا!
كانت حياته كلها عمل، لم يختار لنفسه إجازة دون سبب خارجي، حياة كاملة مضت في العمل والجد وتفانيه اللامنتهي في تعليم أبنائه، كان دائما يطمح إلى أن يوفر لهم حياةً أفضل من حياته، كما كان يصفها بالقاسية، وذلك حتى الرمق الأخير. لم يمضي غير أسبوع واحد على سقوطه مريضا، حتى كانت سيارة إسعاف تقف أمام بيته، فحملته مغرب يوم الأحد في مشهد كان هو آخر مشهد له في تلك البقعة يشهده بأم عينيه.
في صباح يوم الإثنين وأنا أسابق الزمن على متن الحافلة، كان أبي قد قضى ليلة كاملة بمصلحة الإنعاش، لعل أسئلة كثيرة كانت ترهقه، ولعل إحساس اقتراب الرحيل كان يقض مضجعه، ربما النوم لم يجد له فرصة ليتذوقه، وتسلل الشعور بالغربة والأنس لداخله. لا أدري كيف سمحت له سكرات الموت بالتطلع إلى ملامح أبناءه مطولا، وهو متربص به على وشك الرحيل!.
وبعد عناء، وصلت متأخرة إلى مدينة الحسيمة، قرابة الخامسة إلا ربع مساء، كنت أقف أمام مصلحة الإنعاش أتوسل للممرض المناوب أن يسمح لي بالدخول. كان يرفض متعللا بانقضاء مدة الزيارة، وكنت أجدد توسلاتي كمن يستنجد بآخر زورق قبل غضب البحر…غاب دقائق يسيرة بدت كأنها دهرا، ثم عاد يومىء برأسه مبديا موافقته، أدخل أخي قبلي متعللا بسبب طبي كان يعوزه فيه..وبعد دقائق أخرى كانت الأصعب انتظارا وأنا كلي شوقا لرؤية أبي، كنت كمن حقق نصرا بعد عمر طويل…فتح الباب الأزرق، خرج الممرض وأخي يتبعه رماني بنظرات لم أتعرفها إلا بعد حين..يا له من ألم لم أتجرع مثله قبل قط، حين أخبرني أخي أن أبي “توفي” بكلمات بدت طائشة، تتبعثر حروفها حرفا حرفا في كل أرجاء المستشفى، لتلتقي مشكلة كتلة من الألم وصدمة نائبة تكسر سقف عمري بأكمله.
لقد توفي…
أحسست بخناجر حامية تمزق قلبي، ولم أكن أشعر أنه بقي لي قلب، ولم تكن دموع أخي ولا صراخ عمتي ولا حتى مواساة الحاضرات والحاضرين التي ألفها أصحابها كما يبدو تلفتني، كنت ضائعة، تائهة، أغوص في بحار من الهزيمة، وشعور تعجز لغتي عن نقله حروفا!
رأيتهم امام ناظري يجرون أو يدفعون الناقلة المتحركة، وأبي مغطى بالبياض، والسواد جثم على عمري…
كان الموت قد ابتلع أبي،ولم أحظى بنظرة أخيرة، ولم يعلم كم حاولت كي أراه ذلك اليوم ولم أفلح. لم أكن لأدع الموت يسبقني إليه، لكنه قدر فانتصر. وهزمت أنا، صرت أجوب فضاء المشفى في تيه وأنا أرفع بصري إلى السماء، وأسأل الله أهذا حقا حقيقة…
انتظرنا ما يقرب الربع ساعة، ولم أكن أجد أن للوقت قيمة، ولا أعي للزمن ماهية، حتى دخلنا مكانا بدا كئيبا مريبا، لا تشم فيه رائحة للحياة، لعله كان مكتظا باجساد غادرتها أرواحها وتنتظر لتواري الثرى…دلفنا الباب عاجزين عن حمل أرجلنا، سبقوني إليه، وهو مسجى أمامنا،كشف أخي عن وجهه، انفطر قلبي وأحسست بتمزق لا يتوقف بداخلي، تماسكت واستغربت لذلك كثيرا، دنوت إليه، قبلت جبينه، لكنه لم يراني، مررت يداي على وجهه، ولا أعلم هل كان يشعر بي. أمعنت التحديق كأنني أتعرفه حديثا، بدا شاحبا، باردا، بدا لا يشبهه!
لم يكن في استطاعته بعد أن يرى نظراتي الغارقة في الحزن، وضعت يدي على جبهته الطاهرة وتلوت فاتحة الكتاب، ولا أعلم كيف تذكرتها في تلك اللحظة..تمعنت ملامحه مرة أخرى،كانت الأخيرة هناك.قبلته وانصرفنا، لم أكن قادرة على تركه وحيدا خلفنا، في ذلك المكان الغارق في الشؤم والسواد ورائحة اللارجوع، لم أرى لعمري قيمة ونحن نغادر تاركين إياه في لفافة بيضاء…أشعر بالاختناق، أكاد أفقد صوابي، لكني خرجت أجر خطاي وأنا أودعه حتى غيبني الطريق.
لقد مات أبي، وظلت رؤيته حية، التي لم أتمكن منها غصة لا تبرح قلبي، تزداد ألما كلما خفق…
وبعد إحضار جثمانه الطاهر صباح الثلاثاء، ورؤيتي الأخيرة له وهو يوارى الثرى، تبددت كل أحلامي وصرت أبحث عن شيء يربطني بالحياة لأجل أبي.

ومضى اليوم والأيام، والشهر والشهرين ، ومازال بداخلي رجائي الخائب ، أرجوك نظرة أخرى، أرجوك بسمة أخرى… أرجوك أيها الموت أمهلني فرصة أخرى.

وسيمة اولاد سي علي

طالبة جامعية، تخصص رياضيات تطبيقية، مهتمة بالآداب والكتابة الادبية وهاوية للرسم وأشياء أخرى

‫3 تعليقات

  1. مرحبا عزيزتي
    اقدم لك تعازي لوالدك مرة اخرى واتمنى له الرحمة والمغفرة.
    اما عن كتابتك فهي رائعة لقد استطعتي ملامسة قلبي وجعلتني اعيش تفاصل يومك الشاق (الليلة والنهار) .
    بالتوفيق حبيبتي بارك الله فيك وفيما ابدعت وطوبى لوالدك بك

  2. شكرا للأنامل التي خلدت ذكرى وفاة هذا الرجل وجعلتنا نعيش مع أبنائه حدث وفاته، وحفزت مشاعرنا لتذكرنا بمن فارقنا من ذوينا وأحبابنا..
    ىحم الله الفقيد.. وإنا لله وإنا إليه راجعون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *