ضعف الانتماء النقابي

بين الذاتي والموضوعي

تمهيد

يعتبر الفعل السياسي والعمل النقابي حقا من حقوق الإنسان، تكفله المواثيق الدولية وتضمنها الدساتير الدولية وتحميه القوانين الوطنية، حيث يسمح لأي فرد أن ينتمي لأية حزب سياسي وأن يتبنى أية عقيدة فكرية أو نسقا فكرانيا، في احترام تام طبعا للقوانين الجاري بها العمل، وفق مقترب يقبل الآخر ويعبر عن الذات بطريقة حضارية.

ومن بين أدوات التعبير الحضاري عن الذات الانتماء التنظيمي لنسق ما، يلتقي فيه الفرد مع المجموعة التي تتقاسم معه إما نفس الفكر أو نفس الفئة أو نفس القضية. وتعتبر النقابات المهنية أو الحرفية، إطارا حقوقيا ودستوريا للدفاع عن مطالب فئة مهنية أو قطاعية، تبتغي تحقيق مطلب أو تحصين مكتسب، والدفاع عن مطالب مشروعة. والنقابة شأنها شأن أي تنظيم مجتمعي، مبني على أساس الاختيار الفردي والطوعي، بدافع تحقيق الصالح العام، إذ الغاية النقابية هي تنظيم العمال وتربيتهم وإشعارهم بالحقوق التي لهم، وهذا ما يجعل الحاجة للنقابة دائمة حتى بعد التمتع بكامل الحقوق، لأن المحافظة على روح الكفاح هي الضمان الضروري للاستمرار في التمتع بالحقوق. فالنقابة لها دور مهم في الجانب الاجتماعي كما أن للحزب دور مهم في الجانب السياسي، إذ يتحركان في خطين متوازيين، هما خط الكرامة والديمقراطية. فإذا كان الحزب وفق الآلية الديمقراطية يمثل المواطنين داخل المؤسسات التمثيلية ويرافع عنهم (برلمان /حكومة/جماعات ترابية) فإن النقابة تمثل العمال والموظفين وتدافع عنهم أمام هيئاتهم المشغلة (عامة /خاصة) وكلا آليتي الترافع والتدافع يتمان داخل هاتين المؤسستين؛ فالنقابة يجب أن تعمل على ربط علاقات تضامنية بين جميع الذين يتحدثون في المهنة ومن أجل مبدأ واحد اجتماعي هو الاحتفاظ بالحرية وبطيب الحياة لجميع العمال، مواطنين وأجانب كيف ما كان لونهم السياسي.

تساؤلات

فكما أن العمل حق بل ضرورة إنسانية تسمح للفرد بتلبية حاجاته الأساسية كالأكل وتأمين شروط وجوده ووسيلة لإنتاج ما يحتاج إليه، وعلاوة على أنه التزام أخلاقي واجتماعي لأن الإنسان بدون عمل يكون مطرودا ومقصيا من المجتمع لذلك فالعمل وسيلة إدماج وتنشئة اجتماعية. والحق في العمل هو دفاع عن الانتماء لتنظيم اجتماعي ودفاع عن المواطنة. فكذلك الدفاع عن الحقوق التابعة للعمل والمنبثقة عنه حق كذلك، ومنها الحق النقابي. لكن العمل النقابي يعرف تراجعا شيئا ما وما يخصنا هنا بالضبط القطاع التعليمي باعتبارنا جزءا منه وأحد المنتمين له يجعل المتأمل يتساءل بعض الأسئلة، منها:

ما الذي يدفع الطبقة المنتمية لقطاع التعليم إلى العزوف عن النقابات والبحث عن أنساق تعبيرية بديلة/أخرى (التنسيقيات)؟ ولماذا تراجعت نسبة المنتمين الى النقابات؟

سنحاول الاجابة عن هذه الأسئلة في مقال الرأي هذا، الذي كتب على غير قواعد الكتابة الأكاديمية الصارمة، والذي سنحاول فيه التحرر من طرائق الكتابة المنهجية، مكتفين بمحاولة التعبير عن خوالجنا الذاتية وفق منظورنا الشخصي وما توفر لدينا من ممارسة ومدارسة متواضعين.

ونعتبر أن الأسباب التي أضعفت القابلية للانتماء النقابي عند الطبقة الشغيلة، منها ما هو فكري معرفي، ومنها ما هو نفسي اجتماعي وما هو اقتصادي سياسي.

صورة تعبيرية

خفوت جذوة الأيديولوجيا وضعف الأنساق الفكرية

في إحدى الحوارات التي أجريت مع الدكتور المهدي المنجرة، طرح عليه سؤال عن أزمة شباب اليوم، فأجاب أن أزمة شباب هذا الجيل، أنه ليست له قضية.. فجيل الحركة الوطنية كانت له قضية تؤرقه، وهي قضية الاستقلال والتحرر، وبناء الدولة الوطنية العصرية، وجيل الستينيات والسبعينيات كانت قضيته تحقيق البناء الديموقراطي وتأسيس دولة الحق والقانون والتداول على السلطة وتحقيق السيادة الشعبية، فإن هذا الجيل، جيل العولمة، قضيته الوحيدة هي أنه ليست له قضية.

ذلكم الجيل الذي أشرنا إليه نشأ في سياق السرديات الكبرى والتصورات الفكرية التي تؤطر وجهته وتحدد قناعاته وقراراته ومواقعه ومواقفه، وتشكل وعيه ووجوده الاجتماعيين، وفق منظورات الأنساق الفكرية (فكرانيات/انتماءات/عقائد). لكن هذه الأفكار والمذاهب خفتت، وتساقطت في سياق العولمة (الأمركة) وفي سياق ما بات يعرف بموت الأيديولوجيا الذي بدوره أيديولوجيا، وانتشار القيم الرأسمالية التي تسلع كل شيء حتى القيم والأفكار، بل شيئت حتى الإنسان ذاته، وأدخلته في سياق السيولة والاستهلاك، حيث جعلت منه إنسانا مستهلكا أنانيا مكتفيا بذاته ولذاته على ذاته.

شيوع ثقافة الأنانية والبحث عن المصلحة الذاتية أو في الحاجة إلى التفكير اجتماعيا

إن الأنانية وثقافة الحق قبل الواجب، ومنطق أنا ومن بعدي الطوفان، لا يمكن لها أن تبني مجتمعا قويا ولا دولة ناجحة ولا فردا سويا أصلا، إذ لا يمكن لأمة ما أن تنهض من وهدة السقوط التي وقعت فيها إلا إذا تدربت على أن تفكر اجتماعيا، وتعودت على ألا ترى في مسائل الأفراد أو الطبقات الأخرى شؤونا بعيدة عنها أو غير عائدة عليها.

إن التنشئة التنظيمية غايتها أن ترتقي بالفرد ليتسامى على ذاته وخاصة نفسه، ليترفع عن أنانيته وحاجاته، إلى حاجات الآخر، ليذوب الفرد في المجموع وتنمحي أنانيته لا ذاتيته طبعا، بحيث تلتقي مصلحة الفرد مع الصالح العام، ويتحقق المقصدين وهما ارتقاء الفرد والمجموع معا. لكن مع الأسف الذي يحرك البعض الان هو الأشياء (المادة) حيث التصق الفرد بها التصاق العبادة، لا الحاجة فقط، حيث صارت الوسائل غايات. فإذا اعتبرنا أن الإنسان يتحرك ضمن عوالم ثلاث، عالم الأفكار وعالم الأحداث وعالم الأشياء، فلقد اكتفى الموظف منها بعالمين وتنازل طوعيا عن عالم واحد طبعا وهو عالم الأفكار، فهو متتبع جاد للأحداث (خصوصا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي) ومستهلك متقن للأشياء (لباس/مأكولات / ….) ومبتعد فار من عالم الأفكار على اعتبار أنها ترف ومضيعة للوقت بما لا طائل منه ولا منفعة مادية فيه طبعا، فمن سيشتري كتاب بمائة درهم ويترك حذاء جديدا مغريا أمام واجهات محال الملابس، ومن سيشتري رواية ويترك وجبة سريعة شهية، إلا الحمقى طبعا المهوسون بالأفكار وعوالمها في زمن الخفة والسيولة والسرعة..

هنالك عوامل متعددة تزهد الفرد من الانتماء إلى التنظيمات النقابية، منها الأنانية وشيوع ثقافة الاستهلاك والانكفاء على الذات وتحقيق مطالبها (ثالوث البيت والزوجة والسيارة) والبعد عن الأنساق الفكرية والتهمم بقضايا المجتمع وأسئلته الحارقة (من لا همَّ له لا همَّة له) وضعف القراءة وعدم الاقبال على الكتاب (هل من الممكن أن نتصور أستاذا لا يتوفر على مكتبة، من أين يستقي معارفه التي يلقنها، فكما يقال إنما الكلام-المقول- من الكلام-المقروء-) وعوامل أخرى يمكن أن نبسطها في مقالات أخرى.

ضعف الانتماء النقابي

Exit mobile version