بأي لغة تحدث أهل الجنة؟

سنتساءل إذن عن لسان آدم. لكن أي لسان؟
أهو اللغة؟ أم الجارحة؟ عن اللسان واسطة التواصل؟
أم عن اللسان الذي تذوق الثمرة المحرمة؟

هكذا تساءل عبد الفتاح كيليطو في كتابه: “لسان آدم”، محاولا التطرق بشكل فريد لمعضلة أصل اللغة، اختار كيليطو لفظ اللسان لأنه اسم ذو دلالات متعددة، فيطلق على اللغة وعلى الجارجة التي تتذوق، إن التساؤل عن لغة أول البشر بالنسبة له فعل “ساذج، محرج ومزعج في غموض، كالأسئلة التي يلقيها الأطفال أحيانا والتي لا يمكن الإجابة عنها ببراءة. لكن السؤال عند القدماء كان جادا وخطيرا. الإجابة عنه تعني اتخاذ موقف، وقرار ذا رهانات عديدة وعواقب رهيبة أحيانا”.

يحيل كيليطو على تجربة بيسماثيك ذينك وتجربة فريدريك الثاني ، ليخلص بنتيجة مفادها أن رمي طفل في خلاء وتركه لوحد بدون أي تدخل خارجي لن يمنعه من النطق باللغة، وسيعثر من جديد وبشكل عفوي على لغة البشر الأولى، هكذا يرى أن عدم تعلم أية لغة يتيح إمكانية العثور على اللغة الأولى، بالنسبة للتجربة الأولى، أما الثانية فلما غاب فيها اللسان حضر الموت، حيث مات الطفل لأنه لم يتمكن التعبير عن حاجياته.

إن بحثنا في تاريخ تجارب العرب عن تجربة مماثلة لهذه فإننا لن نجد إلا تجربة خيالية أرسى معالمها ابن طفيل في روايته الفلسفية “حي بن يقظان”، وهي تجربة يصور فيها ابن طفيل بشكل ضمني بداية الخلق، ثم أصل اللغة.

صورة مرسومة للكاتب عبج الفتاح كيليطو

استعارات ابن طفيل

تحكي الرواية عن طفل اسمه “حي” رمت به أمه في البحر عند ولادته، فتلاطمته الأمواج إلى أن رمت به في جزيرة مهجورة لا تعمرها إلا الحيوانات، فاحتضنته ظبية وأرضعته واعتنت به إلى أن اشتد عوده، فما زال مع الظباء يحاكي نبرات أصواتها، حتى لا يكاد السامع يفرق بين صوته وصوت الظباء، ويحاكي أيضا أصوات الطيور وسائر الحيوانات محاكاة شديدة لقوة انفعاله لما يريد.

سيستطيع حي وبمفرده أن يتعلم ويكتسب تدريجيا مجموعة من المعارف والأمور الطبيعية والإلهية، ثم سينزل بعد مدة بالجزيرة رجل يدعى “آسال”، سيحاول الأخير رغم إيجاده لمجموعة من اللغات التواصل مع حي لكنه لم يتمكن، سيشرع بعد ذلك في تعليمه الأكل أولا، ثم الكلام ثانيا وتدرج فيه حتى تمكن من التكلم في أقرب مدة.

إن هذه الحكاية حسب كيليطو هي ببساطة ترميز وتمثيل لبداية الخلق، فيرمز حي لأول البشر وهو آدم، بينما ترمز الجزيرة لجنة عدن؛ يخلق آدم ويترك في الجنة يأكل مز زرعها ونباتها كما فعل بن يقضان، فقد خلق وترك في الجزيرة، فتعلم منها الأكل وطرق العيش، أما آسال فيرمز للإله، ومسألته تعليمه لابن يقضان للغة، تحيلنا مباشرة على الآية الكريمة 31 في سورة البقرة {وعلم آدم الأسماء كلها}.

هكذا يكون “لآسال مع حي ما يماثل ما كان لله مع آدم. العلاقة بين القصتين تؤكدها سمات أخرى. وهكذا لم يدر حي بعد أمه (الظبية) ماذا يفعل بجثتها، حتى اللحظة التي يبصر فيها غرابا يصرع غرابا آخر فيدفنه… كذلك يغادر حي جزيرته الفردوسية ليذهب مع آسال إلى الناس. لكن أمله يخيب فيعود للعيش في جزيرته (تلميح على طرد آدم من الجنة ثم توبته). أخيرا، يتفحص ابن طفيل طويلا، قبل أن يستبعدها، رواية للقصة تؤكد أن حيا تولد من طينة مختمرة من غير أب ولا أم”.

اللغة بين الوحي والتواضع

تساءل أبو الفتح ابن جني عن أصل اللغة، وعن أي لسان تكلم به آدم وولده، فرأى فوافق فيما رأى تضمينات ابن طفيل، ورأى أن اللغة تعليم ووحي من عند الله علمها لآدم، وبما أن الله لا يفضل لسانا عن آخر أو قوما عن آخر، وتأويلا للفظ الشمولية في الآية “علم آدم الأسماء كلها”، فإنه يقول: “إن الله سبحانه علم آدم جميع المخلوقات، بجميع اللغات: العربية، والفارسية، والسريانية، والعبرانية، والرومية، وغير ذلك من سائر اللغات، فكان آدم وولده يتكلمون بها، ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا، وعلق كل منهم بلغة من تلك اللغات، فغلبت عليه، واضمحل عنه ما سواها، لبعد عهدهم بها” .
وهو نفسه مذهب أحمد بن فارس في كتابه الصاحبي في فقه اللغة إذ يقول: “اعلم أن لغة العرب توقيف، دليل ذلك قوله تعالى: {وعلم الأسماء كلها}. كان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها وهي الأسماء التي يتعارفها الناس من دابة وأرض، وسهل وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها” .

لقد استند أصحاب هذا الرأي إلى الآية الكريمة السالفة الذكر، وكذا إلى أن تواضع البشر على تسمية الأشياء لا يمكن أن يجري بدون لغة، “فلو كانت اللغات اصطلاحية لاحتيج في التخاطب بوضعها إلى اصطلاح آخر من لغة أو كتابة، ويعود إليه الكلام، ويلزم إما الدور أو التسلسل في الأوضاع، وهو محال، فلا بد من الانتهاء إلى التوقيف” .

يرد الزاعمون بالتواضع والاصطلاح على هذا الرأي بأن ليس المقصود بقوله تعالى {وعلم الأسماء كلها} هو تعليمه للغات، وإنما أن الله جل وعلا أقدر آدم على تسمية الأشياء ومكنه من الكلام، “فهكذا تحدث أولا حروف تلك الأمة وألفاظها الكائنة عن تلك الحروف، ويكون ذلك أولا ممن اتفق منهم فيتفق أن يستعمل الواحد منهم تصويتا أو لفظة في الدلالة على شيء ما عندما يحاطب غيره فيحفظ السامع ذلك، فيستعمل السامع ذلك بعينه عندما يخاطب المنشئ الأول لتلك اللفظة، ويكون السامع الأول قد احتذى بذلك فيقع به، فيكونان قد اصطلحا وتواطآ على تلك اللفظة، فيخاطبان بها غيرهما إلى أن تشيع عن جماعة” .
إذا كان أهل الوحي يحاصرون أهل الاصطلاح بضرورة تواجد لغة يشرع بها في التواضع على الكلمات، فإن أهل الاصطلاح يتساءلون عن سبب تفرق الألسن واختلافها.

حماسة أهل الأرض وعقاب رب السماء

يسلم أهل الوحي أن تعدد الألسن كان هو القاعدة المسلم بها في البداية وهو الشيء الذي ورثه آدم وزوجه من عدن، حتى أن خطيئتهما وعصيانهما لأمر ربهما واتباعهما وساوس الشيطان لم تنل منهما، فظلا متعددي اللسان، “فلما طردا من الفردوس ألفيا نفسيهما في عوز تام وفي عري شائن، لكنهما احتفظا باستعمال كل الألسنة التي ستنطق بها ذريتهما القرون تلو القرون”، إلى أن تحدث البلبلة.

كلنا يعرف قصة النمرود ونبي الله إبراهيم، إذ باشر الأول محاولة صريحة لتحدي الله لما أمر بتشييد برج بابل، فكان بالتالي أول من تجبر في الأرض وعاث فيها فسادا، وسعى إلى الربوبية، إلا أنه سيموت ميتة نكراء، لكن القليل منا من يعلم أن حرب النمرود على أهل السماء كانت السبب المباشر في تشتت البشر الأول، وبالتالي تفرق ألسنتهم، يقول ابن خلدون: “أصاب النمرود وقومه على عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام ما أصابهم في الصرح، وكانت البلبلة وهي المشهورة وقد وقع ذكرها في التوراة ولا أدري معناها. والقول بأن الناس أجمعين كانوا على لغة واحدة فباتوا عليها ثم أصبحوا وقد افترقت لغاتهم قول بعيد في العادة إلا أن يكون من خوارق الأنبياء فهو معجزة حينئذ” .

قصة اللغة

لما رغب النمرود في التشبه بالله، بل بتعويضه، جاءه جواب من الله تعالى يقول: {قد مكر الذين من قبلهم فآتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} (الآية 26 من سورة النحل). ويرى المفسرون أن ريحا عاتية ألقت بأعلى البرج في البحر، وقلبت البيوت، فأخذت النمرود والبابليين رعدة، فتكلموا من الخوف بثلاث وسبعين لسانا ، ومنه جاءت تسمية بلبلة الألسن أي تشتتها وتفرقتها.

في رواية أخرى في معجم البلدان، تحدث البلبلة في جو من السلم دون سقوط الصرح ودون انقلاب البيوت، إذ “لما حشر الله الخلائق إلى بابل، بعث إليهم ريحا شرقية وغربية وقبلية وبحرية، فجمعهم إلى بابل، فاجتمعوا يومئذ ينظرون لما حشروا له، إذ نادى مناد: من جعل المغرب على يمينه والمشرق عن يساره فاقتصد بوجهه فله كلام أهل السماء، فقام يعرب بن قحطان، فقيل له: يا يعرب بن قحطان بن هود أنت هو. فكان أول من تكلم بالعربية، ولم يزل المنادي ينادي: من فعل كذا وكذا فله كذا، حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانا، وانقطع الصوت وتبلبلت الألسن” .

لكن هذه الروايات تطرح أسئلة أخرى تصعب الإجابة عنها: بأي لغة تكلم المنادي حتى يفهمه الجميع؟ أفعلا عاقب الله البابليين ببلبلة ألسنتهم لأنهم أرادوا التشبه به والإطاحة به؟ وإن كان، فلماذا يشير تعالى في عديد من آياته أن تعدد الألسن والألوان، والاختلاف على وجه العموم نعمة:
{ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين} (الروم، الآية 22).
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} (الحجرات، الآية 13).

اللغة محاكاة لأصوات الطبيعة ووظائف الأشياء

لقد فطن ابن جني لصعوبة الجواب عن سؤال أصل اللغة، لذلك نراه يطرح التصورات بدون أن يبدي رأيه الشخصي بصراحة، فما كان له بعد الأسئلة الإعجازية التي خلفتها كل من نظريتي الوحي والمواضعة، إلا أن يضيف نظرية ثالثة وهي نظرية المحاكاة.

يقول أبو الفتح: “أصل اللغات كلها إنما هو من المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجه صالح، ومذهب متقبل” ، هكذا فإن أصل اللغة حسب هذا القول ما هو إلا محاكاة لأصوات الطبيعة، إذ رأى ابن جني أن الإنسان سمى الأشياء بحسب الأصوات التي تصدرها، فسمي صوت الضفادع بالنقيق، والقطط بالمواء، والذئاب بالعواء… وغيرها، لكن هذا الطرح أيضا لا يخلو من إشكال؛ إذ نجد مجموعة من الأشياء التي لا تصدر أصواتا في الطبيعة، كالجمادات، فكيف تمت تسميتها؟ لماذا سمي الحجر بالحجر؟

تصور مرسوم لمدينة بابل القديمة مع برجها العظيم

سؤال متاهة

أمر السلطان المولى إسماعيل ببناء سجن قارا بمدينة مكناس المغربية، وقد ارتبطت شهرته بالغرابة التي طبعت صورته لدى عامة الناس ولدى المؤرخين. إن التصميم والبنية الهندسية لهذا الحبس تجعل ما يقال في الثقب الأسود يقال فيه: “الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود”، إنه سجن له مداخل متعددة، لكن لا مخرج له بحيث أن كل مخرج يفتح مداخل متعددة، فما من أحد دخله وخرج حيا.

إن البحث في أصل اللغة يشبه الدخول إلى حبس قارا، له مداخل متعددة: (الوحي، المواضعة، المحاكاة)، لكن كل هذه إجابات هذه المداخل تطرح إشكالات متعددة، وهو ما دفع فلاسفة اللغة المعاصرين إلى التخلي بشكل تام عن هذا الإشكال، وتبني إشكالات أخرى جديدة، تبحث في جوهر اللغة وحقيقتها ومطابقتها للواقع.

بأي لغة تحدث أهل الجنة؟

Exit mobile version