المغرب المنسي

لم أكن أظن أنني في يوم ما سأحمل قلمي لأخط به بأسي واحباطي، كنت موقنة أن العلنية تكون فقط للنجاحات والانجازات ولحظات الفخر، أما التخبط واليأس فمصيره التستر والاخفاء .. وقفت على ناصية بداية الحلم وملامحه بدأت تلوح في الأفق، ها أنا الآن فتاة شابة تشق طريقها بكل تفاؤل وشغف ورغبة في تقديم كل ما اكتسبته خلال مشوار دراستها، لكن ذلك سرعان ما تبخر أمام مرأى عيني فالواقع الذي وجدته أمامي لا يبث بصلة للذي كنت أرغب فيه ولا ينطبق مع ما تعلمته خلال فترة تكويني ..هذ الواقع جعلني فريسة سهلة لليأس وجلد ذاتي، اعترتني الرغبة في التخلي عن كل شيء ..
صرت أسترجع كلام محيطي المسموم الذي وبخني على سلوك هذا الطريق وكأنني توجهت صوب منحدر محظور .. أنا الأستاذة الجديدة التي سعت كثيرا من أجل هذه اللحظة دون اكتراث لما يروج وما يقال حطت رحالي في هذه الأرض الغابرة المنسية التي تشبه صحراء مهجورة .. قرية صغيرة في سفح جبل بجانب واد قاحل .. القليل من المنازل والكثير من الصخر، لاشيء هنا غير السماء العالية والأرض المليئة بالنبتة الخضراء ..
الأمر الذي لطف من هول المنظر هو وجود أناس لطفاء لبقين يجيدون فن الترحيب بالغريب يعزفون على وتر طمأنت الضيف الجديد يجزمون له أن الأمر ليس بالسوء الذي يبدو عليه .. رحبوا بي بينهم وفي حياتهم .. قضيت ليلتي الأولى أبتلع الدموع التي ما هدأ بالها حتى سقطت لتعلن على أن هذا الحلم الساطع انطفأ نوره وأن الفتاة الشابة ستصبح عجوزا ضريرة هنا .. سطعت شمس الصباح الأول فقررت زيارة مكان العمل؛ المدرسة التي سأزاول فيها مهامي .. الوضع أصبح أكثر رعبا .. ما هذا العبث .. رأيت أمامي بناء آهلا للسقوط في أي لحظة لا يتوفر على أي من مقومات التعليم والتعلم، في هذه اللحظة عقدت العزم على طرد مشاعر الاستسلام شمرت على ساعدي وحاولت أن أجعل من هذا القسم مكانا صالحا للاستعمال نظفت وزينت ورممت ما استطعت حتى صار مكانا تدب فيه الحياة وعج بالجد والاجتهاد المثابرة هذا المكان شهد على لطفي وغضبي على نشاطي وتعبي على تفوق صغاري وحبهم للحرف والخط والأرقام والرسم، وعلى رغبتهم في تحسين حياتهم، في هذا المكان حزنت لحزنهم وابتسمت لفرحهم، كنت أستاذتهم بنكهة أختهم الكبرى .. والجميل في الأمر أن تلاميذي رغم كل الصعاب أحرزوا نجاحا وتفوقا شهد به الجميع .. ضاربين عرض الحائط كل عبارات التأسف التي يمكن أن يتحجج بها أقرانهم من الذين كانت ظروفهم أفضل.
هذه القرية المنسية تحتضن أناسا لم أرى أبدا مثل كرمهم ولطفهم وحيائهم وتعاونهم، لولاهم كنت سأضل حاقدة على حظي العاثر .. هنا في هذا المكان وجدت نفسي وشغفي .. كنت نافعة بشكل لم أكن به من قبل، هنا حيث الانسان لا يقاس بشواهده ولا بعدد اللغات التي ينطقها ولا بسعر هاتفه وثيابه .. تعلمت معهم بأن فاقد الشيء يعطيه بكثرة فالحياة لم تقدم لهم شيء غير التعب والمشقة لكنهم قدموا لي كل شيء.
المؤسف في هذا المكان أنه على الهامش غير معترف به في الخريطة الجغرافية، لا وجود له ضمن تطبيق تحديد المواقع .. يفتقر لأبسط الضروريات فما بالك بالكماليات، دوما كنت أتخيل كيف سيكون الأمر لو زار هذا المكان شخص ذو منصب من مناصب القرار .. ماذا سيخبرهم أين هي ثروات بلادهم أين مخططات الإصلاح، وأين المغرب الأخضر والكل هنا يعاني شبح العطش ..
كنت أتمنى لو أن لي عصى سحرية أغير بها واقعهم وأكافئهم بها على حبهم وكرمهم، فأُعَبِد لهم الطريق وأشيد لهم المستوصف لكي لايضظر أحد على أن يعيش ما قاسته صغيرتي عايدة التي بقيت تصارع ألم لدغة العقرب طوال الليل لأن المستوصف غير موجود، كنت أود أن أضع لبة تلو الأخرى حتى تصبح عبارة عن فضاء تعليمي نظيف لائق يتوفر على مراحيض لكي لا يضطر تلاميذي للنزول إلى الوادي لقضاء حوائجهم .. كنت اتمنى أن أستطيع حفر الكثير من الآبار لكي لا ينتابهم هاجس فقدان الماء بمجرد دخول فصل الصيف .. كنت أود أن أقدم لهم حافلة نقل مدرسي لكي لا يضطر عبد الله الذي يبلغ الثانية عشر من عمره وغيره أن يستيقضوا مع الفجر ويقطعوا مسافة ليست بالهينة مشيا من أجل ركوب الحافلة في الدوار المجاور لهم .. كنت أتمنى أن أقنع لمياء التي غادرت مقاعد الدراسة بإتمامها بدل الزواج عند أول فرصة أتيحت لها لأن أباها منعها من الالتحاق بالاعدادية البعيدة .. كنت أتمنى أن أغير قناعة أهل القرية بأن الطفل يولد برزقه مجرد خرافة توارثوها بدون معنى فهم بذلك يصنعون كوخا مليئا ببطون يغلبها الجوع لا غير ..
لو كانت عصايا السحرية التي أحلم بها عبارة عن منصب برلماني أوصل به صرخة قرى مكلومة .. منصب يسعفني في إنقاذ أهل هذه القرية وأمثالهم من شقائهم كما أنقذوني من وحشة هذا المكان .. لو كان الأمر كذلك كنت رددت بصوت قوي دون تأتأة أن هؤلاء الناس يستحقون اهتماما ونصيبا من العدالة الاجتماعية ليعيشوا مثل غيرهم، أن هؤلاء الأطفال بأجسادهم الهزيلة يعانون الويلات للوصول إلى طاولات دراستهم .. لكنت أخبرتهم أن هذا البناء غير آمن لتأدية رسالة نبيلة .. لكنت دافعت عن حق هؤلاء الشباب في توفير فرص شغل لهم وإنقاذهم من المخدرات التي راحوا ضحية لها .. لكنت أخبرتهم أن الفقر والتهميش هو السبب الأول في الانتحار، كنت سأخبرهم أنني عجزت عن تهدئة روع الأطفال حينما وجدنا جثة الرجل الخمسيني معلقة بالشجرة بمحاداة مدرستهم ..
لكنني لم أكن أملك غير نفسي وجهدي الذي علمت به تلاميذي ما ينفعهم .. في هذا المكان تركت بصمتي خالدة بينهم، هنا في المغرب المنسي تذكرت القيم الخالدة التي كدت أجزم أنها اندثرت .. فكل الشكر لهم لأنهم نسجوا خيوط الأمل في حياتي .. وعسى أن تصبح عصايا السحرية حقيقية وأرد لهم جميلهم .. فخورة لأنني مررت هنا بينهم.

المغرب المنسي

Exit mobile version