الدولة والمجتمع في زمن الطوارئ

تأصيل فلسفي

الدولة ليست مجرد أداة للقمع كما يعرفها البعض أو قائمة بأجهزة أيديولوجية كما هي عند لويس ألتوسير، ذلك أن استعمال الوسائل القمعية في حالات الأزمة تجسد علاقة الهيمنة بتعبير أنطونيو غرامشي.

إن علاقة الدولة بالمجتمع هي علاقة تقوم على قدر من القبول الطوعي بالدولة في الحالة العادية، وقبول بأساليب وتدابير غير عادية في الظروف الاستثنائية، يصطلح عليها في الفقه الدستوري بحالة الطوارئ، من أجل بقاء كيان الدولة وديمومتها واستمرارية سيادتها، وفي ذلك ضمان لسلامة المجتمع وأمن أفراده وصيانة حياتهم ووجودهم. تعتبر حالة الطوارئ تدبيرا يهم وضعا غير عادي (أزمة) يصيب النسق العام للدولة بالارتباك والخلل، وينعكس بدوره على بنية المجتمع، الأمر الذي يضعنا أمام ضرورة طرح سؤال وظيفة الدولة في هذا الصدد ومساءلتها عن تعاقدها المجتمعي.


الدولة وسؤال الوظيفة
تمددت وظيفة الدولة في فلسفة القرن الثامن عشر، هذه الفلسفة السياسية التي تفترض أن الدولة ظاهرة طبيعية، أي صادرة عن النظام الاجتماعي بوصفه نظاما طبيعيا، ولذلك فهي تطابق المجتمع والفرد وهما مبدأ الوجود الاجتماعي الطبيعي في حالتها العادية. وقد تخرج عن منطق الحالة العادية بخصوص وظيفتها تجاه المجتمع عند وقوع ظروف استثنائية حيث تنتفي الأخلاقيات والمشروعية القانونية في هذه الظروف، غير أن هذا التصرف لا ينفي عنها شرعية الوجود و مشروعية الأعمال، لأن ذلك في صالح الاستقرار الاجتماعي و ديمومته واستمرارية الدولة.

إن النظر في وظيفة الدولة في زمن الطوارئ يحيلنا على تأمل جدلية السلطة والمجتمع، أو بالأحرى تلك الجدلية الحادة شديدة التوتر التي تحكم الاجتماع السياسي بصفة عامة وخاصة في القطر العربي، وهي جدلية التوحيد والانقسام التي تشتغله في نسيجه الداخلي باحتدام، وتضعه وسائر الظواهر المرتبطة به في حال من المراوحة بين التماسك النسبي والتشظي المتسع. إن التفكير في هذه الجدلية يمر حكما بالتفكير في الدولة والمجتمع في ظل زمن الطوارئ، باعتبارهما مسرح تلك الجدلية، والفاعل الكبير في إنتاج ديناميتها، والجهة التي ترد عليها نتائجها.يشير عدد من علماء السياسة إلى أن المجتمعات التاريخية لا تنشأ إلا في كنف الدول، حيث لا سبيل للجماعات الاجتماعية لكي تتقدم وتنتج وتراكم وتنظم كيانها الداخلي إلا بالتحول إلى جماعات سياسية تنشأ الدولة عن اجتماعها السياسي، لهذا الاعتبار المرتبط بوظائف الإنتاج والتقدم والتراكم كانت مسألة حضور الدولة في زمن الطوارئ أمرا أساسيا لا غنى عنه.

غير أن اللافت للنظر أن مواجهة الدول لأسباب وموضوع تلك الطوارئ يختلف ويتباين من دولة لأخرى، الشيء الذي يجعلنا نعود من جديد إلى تبنّي الطرح القائل بأن تفاوت الدول في درجة قيمتها وتطور نظمها مرتبط بتفاوت مستوى التنظيم الذاتي للجماعات السياسية التي تكونها، وبتفاوت درجة نضج فكرة الدولة في وعي تلك الجماعات؛ إلا أن تمسك الجماعة بروابطها الأهلية العصبوية المتجذرة في التاريخ أو ما تسميه الأنثروبولوجيا السياسية بعلاقات القرابة، قد يعرض نسيجها السياسي الجامع لأن يتلاشى وتتضاءل مكانة الدولة في حياتها الجمعية، وكلما تمسكت بهذا الجامع السياسي تراجعت فرص انقسامها العصبوي الداخلي ورسخت الدولة في اجتماعها وتعمقت فأمكنها بذلك التغلب على صعوبات تلك الفترة الموسومة بالطوارئ.

صورة من زمن حالة الطوارئ بالعاصمة المغربية الرباط

إن مواجهة حالة الطوارئ تقتضي درجة من التنظيم العالي والتماسك المتين، وهذا الأمر مشروط بوجود الدولة، إذ لا سبيل إلى بلوغ التنظيم الذاتي للمجتمع مع الحفاظ على تماسكه إلا من خلال مسمى الدولة، بل إن وصول المجتمع إلى هذا القدر من التنظيم والتطور والتماسك يفيد بالضرورة أنه يقود إلى نشوء دولة. وهذا الترابط والتلازم بين الجماعة والدولة في مواجهة الأحوال غير العادية المؤدية لإقرار الطوارئ ليس من باب الصدفة التاريخية، بل إنما مأتاه معنى الدولة نفسه، ذلك أن الدولة ليست مضافا في تاريخ المجتمع وإنما هي ماهيته التي بها يكون مجتمعا، وهي ماهيته لأنها مبدأ التنظيم الجمعي فيه، والمقصود هنا أن المبدأ المؤسس للمجتمع بالضرورة هو التنظيم الذي تؤديه الدولة وظيفة وتلعبه دورا، ومن دونه لا يكون المجتمع قائما بل هو مجرد فضاء فسيح لجماعات منفصلة عن بعضها، على أساس أن الدولة هي عقل المجتمع الذي به يحقق وعيه بذاته كمجتمع ملتحم مختلف عن غيره ومتمايز.

إن مسألة الدولة في الحالة العادية أو الاستثنائية تظل ذات أهمية قصوى بالنظر إلى كونها تتمتع بوجود قبلي سابق على وجود الأفراد والجماعات، شأنها في ذلك شأن الدين والعائلة والقومية وغيرها، حيث يخرج هؤلاء إلى الوجود ليجدوا الدولة سابقة ماثلة كأمر واقع موضوعي لم يختره أي منهم. وهي بهذا المعنى تنتمي إلى جملة البُنى والمؤسسات القبلية الإكراهية على حد وصف إميل دوركهايم لها، أي جملة الوقائع والظواهر الاجتماعية الكبرى التي لا دخل للأفراد في تكوينها، والتي لا سبيل إلى الحياة سوى بالخضوع لسلطانها. وهذا صحيح من دون شك لكن بشرط أن لا يعني أن الدولة مفروضة على المجتمع من خارجه أو أنها غير قابلة للتغيير، بل هي خاضعة للمجتمع ولإرادته باعتبارها من ابتكار الإنسان وليست كيانا منزّلا من السماء.

التعاقد الاجتماعي
إن كانت مسألة الدولة كما رأينا آنفا ضرورة لا محيد عنها باعتبار ماهيتها وارتباطها بالمجتمع وما تؤديه من وظائف تبرز أهميتها بشكل خاص في ظل زمن الطوارئ، فإنها تضعنا أمام جدلية الإلزام والإرادة، ذلك أن الدولة كما قررنا فيما سبق كيان قبلي وسابق على وجود الفرد يأتي فيجدها قائمة وهي في ذات الوقت من صنع الإنسان وابتكاره، والحقيقة أن إدراك هذه الجدلية بين الإلزام والإرادة لا يستقيم إلا بالتمييز بين الدولة والسلطة، فالدولة كما يصفها عبد الله العروي تساوي إرادة الجماعة، والدولة وإن كانت تمتلك السلطة فهي تمارسها باسم الجماعة، ولهذا فإن التفكير في الدولة يبدأ عندما نفكر في مقتضيات الإرادة الجماعية، الشيء الذي يجعلنا نسترشد في فهم هذه الجدلية بين الدولة والمجتمع في زمن الطوارئ بتلك النظريات المترسخة في أدبيات الفكر السياسي والقانون الدستوري، التي تجد سندها وتجسيدها في ما يصطلح عليه بنظريات العقد الاجتماعي، السيادة، الإرادة العامة وغيرها، التي اشتهر روادها جون جاك روسو وجون لوك وتوماس هوبز وجون بودان، وكان الغرض من مجموع هذه النظريات وما يرتبط بها من مفاهيمِ التأسيس لتنظيم مؤطر لممارسة السلطة وفق قواعد محددة تُعلي من شأن المجتمع باعتباره صاحب السيادة والمعبرة عن الإرادة العامة وتعطي للدولة حق التصرف بما يخدم مصالح الأفراد والحفاظ على كيان الدولة واستمرارها. ولذلك فإن هذا العقد القائم بين المجتمع والدولة مفاده التعبير عن وظائف هذه الأخيرة بما يضمن للمجتمع الحفاظ على النظام العام بشتى صوره (الصحة العامة، الأمن العام، السكينة العامة…)، وفي كافة الأحوال، وإن كان في زمن الطوارئ يصير آكد، وعلى هذا المقتضى تأسست قواعد القانون العام، التي تتجسد أساسا في الوثائق الدستورية وغيرها من المقتضيات التشريعية، وإذا حصل أن سخرت مجموعة سياسية حاكمة السلطة لمصلحتها أو لمصلحة فئة بعينها، فليس الخلل في كيان الدولة المعبّر عن الجماعة السياسية، وإنما في نخبة سياسية اعتدت على الحق العام وعلى الدولة نفسها.

جون جاك روسو صاحب كتاب العقد الاجتماعي

الدولة بطبيعتها نصاب تمثيلي مجرد، تطابق الأمة في كيانها السياسي والاجتماعي، أما سلطتها فمحل منافسة سياسية بين الفئات والأحزاب والجماعات التي تتداول على هذه السلطة وتغير سياستها وطريقة ممارستها، لكن الدولة هي ذاتها لا تتغير بل تستمر قائمة وإن تغير الأشخاص الذين يمارسون السلطة على مستواها.

لعله سيكون من الممكن القول أن التعاقد الاجتماعي بهذه الصفة التي أشرنا لها يعد أعظم اختراع بشري في التاريخ، لكونه يمكّن من تنظيم المجتمع من خلال الدولة وتحسن من شروط حياة المجتمع وتأمين أمنه الداخلي والخارجي في الأوضاع العادية والاستثنائية، وهنا تظهر قيمة العقد الاجتماعي الذي يساهم في ترشيد سلوك الجماعات وتهذيبه خاصة في زمن الطوارئ الذي يكون عرضة للانفلات وتزداد درجة انعدام الضبط، ليتدخل التعاقد الاجتماعي فيقيم النظام ويحفظ النوع الإنساني من كل خطر داهم يتهدد وجوده وبقاءه. وهذا ليس من باب مدح الدولة أو العقد القائم بينها والمجتمع، ولكنه تقرير لحقيقة موضوعية وتاريخية يشهد على صوابها وصدقيّتها من عاش تجربة غياب الدولة وانفلات الأمن وانتشار الفوضى أو الانغماس في الحروب الأهلية. ولذلك كانت مسألة تبني العقد الاجتماعي أسمى تعبير عن تطور المجتمع ووعيه وأفضل ما يمكن به الحفاظ على دور الدولة في إطارها المحدود وضمان عدم تسلط النخبة السياسية بما توفر لها من سلطة تمارسها.


لائحة المراجع:
أندرياس فيرإيكه وفرانتس كوهوت، موسوعة أطلس العلوم السياسية، ترجمة سامي أبو يحيى، المكتبة الشرقية، الطبعة الأولى، بيروت، سنة 2012.
بشارة عزمي، المجتمع المدني: دراسة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، سنة 1998.
تولين عبد الرزاق زين، حماية الحريات العامة في ظل الطوارئ –دراسة مقارنة-، مجلة جامعة البعث، المجلد 39، عدد 30، سنة 2017.
عبد الإله بلقزيز، الدولة والمجتمع جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، سنة 2008.
عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، الدار البيضاء، سنة 1983.
نيكولاس بولانتزاس، نظرية الدولة، ترجمة ميشيل كيلو، مكتبة التنوير، الطبعة الثانية، بيروت، 2010.
نبيل محمد بوحميدي وآخرون، الدولة والقانون في زمن جائحة كورونا، مؤلف جماعي، مؤلفات إحياء علوم القانون، الطبعة الأولى، سنة 2020.

الدولة والمجتمع في زمن الطوارئ

شادي ياسين

باحث في القانون العام والعلوم السياسية، حاصل على شهادة الإجازة في القانون العام، ماستر في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، ماستر العمل البرلماني والصياغة التشريعية، حاصل على شهادة الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة، مدون، فاعل جمعوي...

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *