ان تكون متميزا

إن النعيم في الفانية التي نحيا فيها أيامًا معدودات، لربما يتأصل في لحظات نجاح تمر علينا، فنعيش بها نعيما لحظيًا، ثم نمضي إلى تحقيق ما يوصلنا لنعيم لحظي آخر يجعلنا نشعر بلذة الحياة، وبطبيعة الحال كتب علينا في هذه الفانية السعي المستمر، فلا مجال في هذه الدنيا للراحة أو الخمود أو حتى القعود، فكما يقال عنها، هي دار شقاء، فمن قعد فيها لا مكان له فيها، فألهانا التكاثر عن كثير من المعاني التي من الممكن أن نحياها فأفقدنا ذلك روح الحياة ومعناها الحقيقي الذي بعثنا من أجله.

اختلفت النوايا والقلوب باختلاف الأشخاص وثقافاتهم وما يتبعونه من أفكار وعادات، ولكن يظل هدف الإنسان في هذه الحياة أن يسعى سعيًا مستمرًا بالاستقتال من أجل التميز على الآخرين الذي على الأغلب يجري تقديمه على التميز على النفس السابقة وما فيها من آفات وعيوب والتي تحتاج إلى كثير من الجهد الجهيد كي تكون أفضل مما كانت عليه في السابق لكي يدفعها ذلك على التميز والحركة بحرية واستقلالية بدل أن نكون أسرى عيوبها.

ستظل الدنيا مهما حاولنا استدفاع هذا المعنى والبعد عنه بشتى الطرق جحيم الإنسان الذي ينقضي إما بجحيم أبدي أو بجنة عرضها السماوات والأرض أبدية أيضًا كأختها، ولكن بها نعيم لا يفنى، وفي وسط ازدحام هذه الحياة وتقلب خطوبها استشرى الشقاء في نفوس أغلب الناس باختلاف أجناسهم وأشكالهم وطرق تفكيرهم، والسبب بالنسبة إليهم غير معلوم بالمرة مهما حاولوا البحث عنه.

الكآبة أصبحت صيحة العصر شئنا أم أبينا، بل إن بعض الناس يستسلم للاكتئاب ويصدق أول تشخيص لأول طبيب نفسي يقوم بتوصيف حالته ويأخذ في ابتلاع حبات الدواء واحدة تلو الأخرى على أمل أن تكون في هذه الحبة السحرية «على حد ظنه» سبيلًا للشفاء، فيركن إلى أهواء نفسه وتقلباته المزاجية، ولا يهدأ له بال أبدًا ولا يغمض له جفن، فالسهر عنوانه، ووحش النوم نهارًا يكاد يلتهمه، وحبات الدواء تلك بقدر ما توقف من أعراض المرض، إلا إنها توقف حياة المرء، وتجعله مرهونًا بأخذ هذه الحبة، وعدم الاكتراث أبدًا لما يترتب على ذلك من خسائر نفسية، بل أحيانًا جسدية قد تصل بالإنسان إلى تقلب مزاجه بشكل أكبر مما سبق؛ لأنها وببساطة تجعل من الإنسان أسيرها فإما أن يقوم بأخذها ويزيد وزنه مثلًا ويكون مكبلًا بشكل معنوي فلا يستطيع أن يتحرك إلا بعد جهد مرير وتصير انفعالاته بطيئة للغاية، وتقل استجاباته للأمور، وقد تتسم بالبرود في بعض الأحيان، وتعود الحالة النفسية إلى أسوأ مما كانت عليه في السابق، ويظل المرء في حلقة مغلقة، فيغير الدواء ظنًا منه أن الحبة السحرية لا تعمل، ولا يفكر ولو لمرة في حياته أن يغير سلوكه الذي أدى به إلى هذه الحالة، وأودى به، وأوصله إلى هذه الحال التي لا تسر حبيبًا ولا عدوًا.

إن من يتميز حقًا عن غيره في هذه الحياة، هو الذي استطاع الصعود من دركات جحيم الفانية وتعديها إلى درجات النعيم، فهو يفقه نفسه ويعلم كيف يزكيها بتخليتها من أمراض القلوب، ثم بتحليتها بأعمال القلوب، فهو متوكل على ربه، ويرجو رحمته، ويسأله ألا يحمله لا طاقة له به، فتميزه هذا ينبع في استطاعته، وتمكنه من أن يحيا السعادة الحقيقية، فلم يحيره التقاط السعادة من وسط التعاسات الأخرى بالأفعال والأعمال وتحسين وتهذيب السلوك، هو الذي فقه أن التميز الحقيقي «الفوز بالجنة والنجاة من النار» وجعل من باقي الأشياء أمرًا ثانويًا، وذلك لأنه وضع رضا الله عز وجل في حياته هدفًا عامًا، فجسده في جحيم الفانية بينما روحه ترفرف في أعلى عليين، على عكس غيره من الأشقياء ممن تعذب أرواحهم في أسفل سافلين، إضافة إلى وجود أرواحهم في جحيم الفانية.

وختامًا القتال في جحيم الفانية هو أمر يفعله الجميع سواء مؤمن، مسلم، أو غير ذلك فالمؤمن يرى الجحيم ببصيرته محفوفًا بالشهوات والجنة بالمكاره، فيترك شهوته وهواه من أجل النعيم الحقيقي الذي لا يفنى، وسعيه في هذه الدنيا يكون ببوصلة لا تتجه إلا سوى رضا الله عز وجل، وأما عن غيره من الناس يرون أن أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه من متعة ونجاح ولذة هو عبر الحياة الدنيا، فيأكلون كثيرًا ويلعبون ويلهون، بل يتعدون الشهوات بمراحل كثيرة، فتراهم فاقدين لمعنى الحياة بعد فترة ما من الزمن بعد أن يكونوا قد حققوا كل ما يريدون في الحياة دون كبح جماح للنفس أو وجود قانون يحكمهم من الداخل، فينتهي بهم الأمر إلى الاكتئاب ثم التفكير بالانتحار. كلنا نتساءل بعدما نصل إلى هدف كبير في حياتنا «ثم ماذا بعد؟»، ولكن إن لم يكن الله هو الغاية الأولى في حياتنا فلم نحيا من الأساس؟

ان تكون متميزا

الشهبي أحمد

استاذ التعليم الثانوي التأهيلي ،روائي وكاتب رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *