خيانة وحب

في حلكة ليل شديد السواد…ثكاتفت فيه السحب وحجبت نور السماء.. أوى فيه جميع سكان القرية إلى مضاجعهم فساد في المكان صمت رهيب، فما عاد يسمع سوى صوت ريح عاتية أو عواء ذئب بعيد…
في ذاك البيت المنزوي في الناحية الشرقية بدا نور خافت يشع من وراء النافذة الزجاجية.. وعلى أريكة الغرفة الصغيرة جلست بطلتنا وهي تحيك لباسا صوفيا بألوان زاهية …يبدو أن صاحبه شخص محبوب وله مكانة كبيرة في قلب الفتاة حتى يطرد النوم من عينيها ويجعلها تسارع الزمن لتقدمه بسرعة إليه.

فجأة رفعت رأسها وتوجهت بنظرها نحو النافذة فامتد بصرها نحو الأفق البعيد وفر ثغرها عن ابتسامة رقيقة..لقد كانت شابة في مقتبل العمر لها من الجمال مايجعل المرء يقف حائرا أمامها، بشعرها الذهبي المنسدل على كتيفيها وفمها الأحمر المرسوم، لها جسم ممثلئ في استواء واعتدال. أما ذاك البريق المشع من عينيها الصغيرتين فكأنه نور ينير لها الدروبات.. فجأة رفعت يديها إلى عينيها لتدعكهما في محاولة لطرد النوم، لكنها لم تتمكن من عنادهما أكثر فتوجهت إلى سريرها القديم لتغمض عينيها وتغوص في سباتها… وفي الصباح تسللت أشعة الشمس الذهبية لتخترق زجاج نافذة غرفتها، وبحركة سريعة استيقضت وتوجهت إلى الغرفة المجاورة، حيث ترقد جدتها العجوز قبلت جبينها وسألتها “كيف قضيت ليلتك ياجدتي؟ ” “بخير ياعزيزتي وأنت؟ يبدو أنك لم تنامي بما فيه الكفاية فعيناك متورمتان “..” نعم ياجدتي في الليلة الماضية كنت أحيك قميصا”رشا “أنت تعلمين أني أرغب أن أقدمه هدية لها في عيد ميلادها السادس “.
ياصغيرتي لما تتعبين نفسك من أجل شخص لا يهتم بك؟
جدتي، أنا فقط أحب ابنته فهي تذكرني بي عندما كنت صغيرة بعد وفاة أهلي في ذلك الحادث المأساوي، عشت أياما عصيبة وأحسست باليتم لو لا فضل الله ووجدودك في حياتي، بعد أن أنقذتني من اليتم وأويتني في بيتك الصغير لكنت متشردة الان”
قالت ذلك، ثم انحنت لتقبل رأسها..
أجابت العجوز بصوت مبحوح”” وأنا كنت سعيدة بوجودك معي فأنت كنتي سندي في هذه الحياة وتعلمين أني أحبك حبا خالصا كما لو أنك طفلتي التي لم أرزق بها..لكن يا صغيرتي هذه المشاعر المختلطة في قلبك، تجعلني أخاف عليك فأنت تغرقين نفسك في مشاعر حب مزيفة لشخص لا يحس بوجودك. هو رجل تعرض للخيانة من طرف زوجته الهاربة مع عشيقها وهذا الجرح سيظل غائرا في قلبه. لهذا فهو قد اعتزل النساء وقرر تربية ابنته بمفرده. وأنت تظنين أنك ستتقربين إليه من خلالها. لكن يا صغيرتي هو رجل جريح وستعيشين في عذاب الحب معه، ابتعدي عن طريقه وربما تجدين من يبادلك مشاعر الحب الحقيقي ويكون رجلك في المستقبل”.
“جدتي أرجوك يكفي هيا انهضي لنتناول فطورنا بسرعة هيا..”
قهقت الجدة وقالت: “هيا أيتها العنيدة الصغيرة فليحميك الله يابنتي وليكتب لك السعادة التي حرمت منها في صغرك ”
وفي الكوخ المجاور كان السيد عبد الحميد منهمكا في تحضير الفطور لابنته الوحيدة، وبسرعة وضعه على الطاولة الخشبية ونادى ابنته “رشا الفطور جاهز .هيا بسرعة فأنا على عجلة من أمري”.
“حاضر يا أبي أنا جاهزة” تقدمت الصغيرة نحو والدها ومنحته قبلة حارة على خده الأيمن، ثم جلست فوق مقعدها وبدأت بشرب الحساء” أمم إنه لذيذ ..لقد أصبحت طباخا ماهرا “. رمقها بنظرة عابرة وقال “صحة وهنا” ..

وبعد بضع دقائق كان الأب وابنته أمام منزل الجدة، وبعد تبادل التحية مع رؤى، دلفت الصغيرة رشا كعادتها في انتظار عودة الأب في المساء. وغادر السيد عبد الحميد بسرعة مثل عادته، دون أن يعير رؤى اهتماما أو ينتبه لنظراتها التي تحمل مشاعر جميلة مليئة بالحب والعشق نحوه. لو أنه نظر إلى تلك العينان الساحرتان لغاص في عشقهما مدى الحياة لكن غشاوة الكره ونار الانتقام المتقدة داخل قلبه كانت تحجب عنه الرؤية ..لكن رغم كل هذه اللامبالاة إلا أن صغيرتنا كانت مليئة بالأمل وكانت تنتظر قدومه كل صباح ليترك ابنته في عهدتها حتى يحل المساء فيأتي لاصطحابها من جديد بعد تقديمه بعض كلمات الشكر على اعتنائها بها…
مرت الأيام بسرعة و حل يوم عيد مولد “رشا”. في ذاك الصباح المشرق استيقظت رؤى بحماس كبير , كانت قد أنهت حياكة القميص الذي صنعته بحب “لرشا “ولفته في غلاف، ثم وضعته بعلبة صغيرة. بعد ذلك هرعت إلى المطبخ وبدأت في تجهيز وتحضير الحفلة. فطبخت بعد المأكولات الخفيفة، وصنعت بيديها كعكة الفرولة وبعض المشروبات اللذيذة..

و في المساء جاء السيد عبد الحميد كعادته من العمل بعد يوم شاق، فتوجه صوب منزل رؤى لاصطحاب ابنته وعندما فتح الباب تفاجأ بابنته الصغيرة ترتدي فستانا أحمر وهي تضع قبعة صغيرة على شعرها القصير، فأمسكت بيده ودعته للدخول للاحتفال معا…
امتلأت أركان البيت بالفرحة والبهجة، وكانت رشا أكثر الحضور سعادة، أما رؤى فلم تفارق عيناها عبد الحميد الذي جلس فوق الأريكة وكأس الشاي بين يديه.. فجأة التقت نظراتهما لم تكن نظرات بريئة هذه المرة فلقد وقع أسير تلك العينان الجميلتان اللتان تحملان عشقا كبيرا بداخلهما.. فتقدمت رؤى نحوه وقدمت له طبق الكعك، مد يده لأخذ واحدة وعيناه تراقبانها بتمعن شديد ثم قال “شكراا لك لا أعرف كيف أشكرك على كل ما تقومين به من أجلي ابنتي، لقد قمت اليوم بإحياء ذكرى مولدها بدلا مني، وبدلا من المرأة التي أنجبتها. لا أعرف حقا كيف أشكرك؟”،” لا داعي لكل هذا فأنا أحب رشا كثيرا. فهي بمثابة أختي الصغيرة” ..فأردف قائلا :”حقا لقد عوضتها عن حنان الأم أنت إنسانة رقيقة”
إحمرت وجنتا رؤى وأبعدت نظرها بسرعة عنه فابتسم وقال: “كم أنت جميلة اليوم ما سر في ذلك ياترى؟”
ابتسمت رؤى ابتسامة رقيقة وقالت :”شكرا لك”.
كانت السعادة تملأ قلب رؤى وهي تحدث الشخص الذي لا طالما عشقته .لقد كان أمامها وعيناه تنظران إلى عينيها مباشرة مع ابتسامة عذبة لم تفارق شفتاه..
بعد برهة وأثناء انشغال رؤى بأصدقاء رشا لمحت السيد عبد الحميد يتبادل أطراف الحديث مع جدتها. فبدأت الأفكار تتسابق إلى ذهنها. ترى عن ماذا يتحدثان؟ يبدو أن الأمر مهم لدرجة أن جدتي مهتمة بالموضوع ؟ لقد تمكن مني الفضول، أرغب بشدة في معرفة مايدور بينهما…
في المساء، وبعد انتهاء الحفلة غادر الجميع المنزل ولم يظل في المنزل سوى رؤى وجدتها.
بعد قليل سمعت صوت جدتها وهي تنادي عليها “عزيزتي أريد أن أحدثك بأمر عاجل، هرعت رؤى بسرعة ودلفت إلى الغرفة المجاورة التي أشارت إليها الجدة ، فتبعتها الجدة، ساد في الغرفة صمت رهيب قبل أن يقطعه صوت الجدة وهي تقول: “يا بنتي يبدو أن الله قد استجاب لدعواتك، فاليوم السيد عبد الحميد طلب يدك لللزواج. وأنا طلبت منه مهلة حتى أستشيرك في الأمر رغم يقيني أنك ستوافقين” تهللت أسارير رؤى وانفرجت شفتاها عن ابتسامة كبيرة.. ثم حضنت جدتها بقوة. “على مهلك أيتها المشاكسة ستوقعينني” قهقهت رؤى وهمت على رأسها فقبلته قبلة حارة ثم أردفت قائلة:” أنا سعيدة كثيرا, فأنا لا أصدق كيف تغيرت الأحداث بهذه السرعة, لأنه لم يكن يعيرني أي اهتمام من قبل”.
” يا بنتي لا تفرحي كثيرا فهو يريد أما لابنته فقط، وقد تأكد أنه لن يجد من تهتم بها أكثر منك”.
قاطعتها رؤى “وأنا أحبها ياجدتي، سأعتني بها مثل أختي التي لم أرزق بها”.
ردت الجدة “ياصغيرتي إنها مسؤولية كبيرة وأنت مازلت صغيرة ،أنت بدورك تحتاجين للرعاية”.
“لا تقلقي ياجدتي فأنا أستطيع أن أتحمل هذه المسؤولية, فقط ثقي بي”..
رفعت العجوز عينيها نحوها قائلة “حسنا ياصغيرتي, فأنا كل همي أن أراك سعيدة .جهزي نفسك فزوج المستقبل على عجلة من أمره، والشهر المقبل سيكون زفافكما بإذن الله”.
لم تستطع رؤى أن تخفي سعادتها وحضنت جدتها من جديد وصوت ضحكاتهما يجلجل المكان ….
مرت الأيام بسرعة.. ووصل اليوم الموعود استيقظت رؤى ووجها مشرق، تزينه ابتسامتها الجميلة فقد كانت أسعد عروس على وجه الأرض، فغادرت سريرها والتحقت بجدتها التي انشغلت بالتجهيزات رفقة نسوة القرية اللواتي قدمن لتقديم المساعدة لهما …
في تلك الأثناء.. كان السيد عبد الحميد يجهز نفسه بدوره، لكن عقله كان شاردا في مكان بعيد .لقد رجعت به الذاكرة إلى يوم زفافه من حبيبته الهاربة وأم ابنته الوحيدة، وهو يتذكر سعادته الكبيرة أنذاك. فهو العاشق المتيم بحبها.. كانت حبه الأول وكل مايملك في هذه الحياة، لكنه تفاجأ بعد مرور سنتين من زواجهما بتغير تلك العاشقة عنه، إلى أن جاء ذاك اليوم المشؤوم عندما عاد إلى منزله كعادته بعد قضاء يوم متعب في العمل . قام بطرق الباب وعوض أن تفتح حبيبته كعادتها تفاجأ بباب المنزل مفتوحا، تعجب ثم دلف، لم يكن في المنزل أحد . لقد كان المنزل موحشا صامتا ومخيفا، حتى قدمت رؤى وهي تحمل ابنته بين ذراعيها وقالت :”أسفة لأني دخلت إلى منزلك في غيابك لكني سمعت بكاء رشا ولم أتحمل سماعه، فهرعت إليها،لقد كانت لوحدها في البيت”. حينها فقط تغير لون وجهه ودخل يبحث في أرجاء المنزل عن زوجته التي لم يعثر على أثرها ..كان يبدو كالمجنون وهو يقرأ الكلمات التي خطتها الزوجة على ورقة بيضاء، وقد وضعتها بجانب السرير الذي جمعهما لسنتين كاملين.. كلمات تمكنت من أن تسيل دموع رجل بعد أن تضمنت خيانتها الحقيرة له، ومع اخر حروفها مزقها لقطع صغيرة ثم رمى بها في الهواء، وبدأ يبكي بصوت مبحوح ،كل هذا ورؤى لا زالت واقفة تتابع تصرفاته القاسية على نفسه..

” لم يحس إلا ودمعة خائنة قد تسللت من عيناه لتسقط على خده، مسحها بسرعة، وقال بصوت مسموع لقد مضى كل شيء اليوم سأبدأ حياة جديدة. وستكون ابنتي بخير مع أمها الجديدة. قاطعه صوت ابنته الصغيرة من داخل غرفتها وهي تتألم” أبي أبي… “أسرع نحو غرفتها بسرعة فوجدها طريحة الأرض شاحبة الوجه، فحملها دون تردد بين ذراعيه وضمها إلى صدره بحنان ثم قال :” مابك ياحبيبتي؟”
“أشعر بألم حاد هنا “وأشارت نحو قلبها صغير ومع نهاية كلماتها. هرع بسرعة بها إلى مستشفى القرية المجاورة لقد كان يعدو كالريح. وهو ينظر إلى وجهها بين الفينة و الأخرى .. وعند وصوله باب المستشفى بدأ بالصراخ “انقدوا ابنتي، انقدوا ابنتي”
تقدمت الممرضة نحوه وهي تسأله باهتمام بالغ: مابها ؟” إنها تشعر بألم في قلبها ودقات قلبها بطيئة” حسنا أدخلها إلى الغرفة سأنادي الطبيب بسرعة” بعد برهة دخل الطبيب وطلب منه مغادرة الغرفة فخرج وعيناه لا تفارقان وجه ابنته، ثم جلس على الأريكة المتواجدة بجانب الغرفة.. وبينما هو كذلك دخلت رؤى ومعها بعض الجيران تقدمت نحوه لتسأله عن حالتها ..فرفع عينيه نحوها والدموع تسيل منهما، ثم قال:” إنها مريضة بشدة وقلبها ضعيف جدا، ستجري عملية جراحية “سكت قليلا ثم أردف” لكن كيف ستتحمل هذا الألم إنها صغيرة جدا؟” ثم ارتمى في حضنها كالطفل الصغير ….
وبعد برهة فتح باب الغرفة وخرج الطبيب مطأطأ الرأس، أسرع نحوه السيد عبد الحميد وهو يقول ” أرجوك قل لي بأن ابنتي بخير ” نظر إليه الطبيب بعطف وعيناه حزينتان “كنت أتمنى ذلك، لكن ….أنا أسف لقد فقدناها” …ومع آخر كلماته صرخ عبد الحميد بأعلى صوته وتوجه نحو الحائط وهو يضرب رأسه معه حتى سال منه دم غزير، مع محاولة بعض جيرانه لإيقافه لكن دون جدوى، مما استدعى تدخل رجال أمن المستشفى، مرغمينه على الاستسلام ثم أدخلوه إلى الغرفة الأخرى ليقدموا له حقنة مهدئة ..أما رؤى فظلت في مكانها، والدموع تنغمر من عينيها بغزارة ….كيف لها أن تواسي حبيبها المجروح وهي بدورها تعاني من فقدان صديقتها الصغيرة ، وأختها التي لم ترزق بها ؟ كيف لها أن تمنحه القوة التي تفتقدها ؟ ففاقد الشيء لا يعطيه…..
بعد وفاة “رشا” الصغيرة تغير كل شيء فهي لم تغادر إلا بعد أن أخذت معها السعادة والفرح، الذي كان يعم في البيت وفي كل أنحاء القرية الصغيرة، فحل محله حزنه عميق  وصمت قاتل ..فرؤى ظلت سجينة بغرفتها لا تخرج إلا نادرا، بعد هذا الحدث المحزن ،وبعد أن فقد حبيبها عقله وغادر القرية دون رجعة..أما جدتها المسكينة فقد أعياها المرض، وتملك منها الحزن على فراق رشا، وحزن حفيدتها، التي حرمت من السعادة بعد أن وضعت قدماها على بابها .وظنت أن الحياة قد ابتسمت لها وستعوضها عن الماضي الأليم الذي عاشته في صغرها..

مريم عمار

أستاذة التعليم الابتدائي القطاع العام .حاصلة على شهادة الإجازة المهنية شعبة الصحافة القانونية، سبق أن اشتغلت بمجموعة من المؤسسات الصحفية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *