عذرا صديقي المثقف

عن معاناة "المثقفين" في المجتمع

معذرة.. لا تحزن يا عزيزي المثقف

إن الذي يشجع الباحث على مواصلة بحثه وتنقيبه، ويعينه على الإجابة عن أسئلته الحارقة والاشتباك مع القضايا المعرفية، وجود مكتبة توفر له مصادر ومراجع للبحث أو القضية التي يشتغل عليها لما في فضاء المكتبة من جو يدمجه في فضاء البحث والتكوين.
إذ المكتبة لا توفر له المراجع والمصادر البحثية فقط، بل توفر له جوا معرفيا باعثا على التنقيب ومحفزا على البحث بل يخلق له فضاءً ومحيطًا. وذلك راجع بطبيعة الحال لما يخلقه الفضاء من قوة وتأثير، وما يتركه المحيط في النفس من بالغ الأثر، فإذا كان للمستشفى روح تسكنه، وإذا كانت للمحكمة روحا تسكنها، وللمسجد ودور العبادة روحا تسكنها، يشعر بها كل زائر أو مرتاد، فإن للمكتبة كذلك روحا تخلق جوا لمرتاديها، ويشعر بها كل من ولجها، كما تتذكر ذلك أنت الآن أيها القارئ الكريم.
لكن الأمر الذي يعوقنا هو ندرة هذه المكتبات وقلتها بل انعدامها في بعض الأماكن، بل وتمركزها في مدن بعينها (المركز) وضعف المكتبات البلدية/المحلية، والتي إن وجدت فإن كتبها لا تشجع على البحث، لأن معظمها كتب موجهة للتلاميذ (كتب مدرسية لحل نماذج الامتحانات) أو كتب تراثية في نمط محدد من التراث لأن في الغالب من ينشىء هذه المكتبات يكون بعيدا عن الكتب وعالمها وعن البحث وإشكالاته. وكذا لصعوبة تشكيل المكتبات الخاصة والشخصية (المنزلية) لكل باحث.
ففي ظل هذا الجو يلجأ الطلبة للمقاهي باعتبارها الملاذ الوحيد للقراءة أو الكتابة وأحيانا للتأمل . لكن المقهى كما لا يخفى عليكم ليس مكانا للفعل القرائي وحده مع الأسف، وليس فضاء يجلسه القراء والمثقفون فقط (مع الإشارة إلى ندرة المقاهي الثقافية)، بل هي مكان للبطالين العاطلين/ المعطلين، الذين لا شغل لهم سوى لوك اللسان باغتياب سكان الحي ولمز بنات الجيران والحديث عن أعراضهن، والبحث في محددات الجغرافيا الجسمية للمارات، والنظر في فلسفة تاريخ المَارِين، عن عوامل السقوط ومعيقات النهوض.

coffee g6b1ba06c2 1280
صورة تعبيرية

وهكذا أصبح المقهى مفر جدلي لفئتين ونمطين من الناس؛ الفار من بيته ليقرأ ويتصفح كتبه ليوسع جغرافيا فكره ويؤثث تاريخ وعيه، والفار من بيته العاشق للتاريخ وللجغرافيا لكن في اتجاه آخر…..
فيجلس القارئ بالمقهى في مكان فارغ، فما إن ينغمس في قراءة كتابه أو إنجاز بحثه، حتى ينسل من بين يديه أو من خلفه رهط من الناس (وكأن قانون الجذب يجلبهم إليه.. عجيب) يقعدون بجنبه لا لشيء إلا ليعكروا عليه صفوه ويقطعوا عليه خلوته، ومن طبيعة الحال لا يمكن أن ينكدوا عليه فقط، بل لنزعتهم الشيوعية وثقافتهم الاشتراكية، يسارعون إلى إشراكه في الحديث وإلى إشاعة تمدد الطاولة التي يقعدون بها إلى باقي فضاءات المقهى، خالقين موسما لغويا عنوانه: الحديث للجميع، ولا عزاء للصامتين… مفعلين بكل جدية مضامين كتاب القصيمي (العرب ظاهرة صوتية)؛ فهذا اشترى فريقه ميسي، والآخر فاز فريقه على كريستيانو رونالدو، والآخر يقول حسب تصريحه نحن هذه السنة سنأخذ البطولة الإنجليزية –للإشارة المتحدث اسمه سمير الماجيدي مزداد بدوار التقلية جماعة حد لهيه إقليم الشينوا المغرب- ، لكن مع ذلك القالب مغربي والقلب انجليزي والعقلية منفتحة على العالم ، عالم لم يعد قرية صغيرة، بل القرية صارت عالما صغيراً.
طبعا هذا الأمر يزعجك عزيزي (المثقف)

لا تسأم ولا تمتعض

فالمقهى عند عامة الناس ليست سوى فضاء للغو، فضاء للتنفيس الكلامي، أو تفعيل الظـــاهرة الصوتـــية، هي فضاء للهروب من وعورة الحياة ومن نكدها، من مشاكلــــــــها ومتطلــــــباتــــها، من البيت ونكـــده، من المرأة وصداعــــها، وتحية خاصة للمرأة التي تســـــاهم في الرفع من مداخيل المقاهي، تحياتـــــي لكن واصلن ….
هو فضاء إذن للفرار والحوار ، لكن ليسا حوارا أفقا للفكر( كتاب طه عبد الرحمن) أو حوارٌ وإلا خراب الديار( كتاب محمد جلال كشك) ، حوار ليست غايته محاربة الغباء وإنما حوار غايته محاربة الغلاء، يقاومه، على الاقل يمتعض منه ، يسبه ، ينهال عليه بوابل الكلام المفخخ بالسباب، على الأقل، وهذا أضعف الإيمان ، فإن لم يستطع فبلسانه، حيلته وأقوى وأغلى ما يملك، ففي البدء كانت الكلمة، وفي الأخير ستكــــون الكـــــلمـــــــــــة.

يا عزيزي المثقف لا تقلق إن وجدت الناس في المقهى لا يناقشون نقاشاتك ولا يهتمون بهمومك، لا يناقشون نظرية هابرماس التواصلية أو نظرية آينشتاين النسبية، ولا تحتقرهم، فهم كذلك يناقشون النظريات، بل أم النظريات عندنا، نظرية المؤامرة، هل تعلم أن صدام حسين مازال حيا عند أصحاب المقهى، وأن اليهود رموا مساحيق ومبيدات سامة في المياه ، فلا تشربها، حذاري ، هذا ما قاله عزيز “بونيف” الذي يجلس بمقهى شوفوني بحينا……

فما دمنا لم نخلق مجتمعا للمعرفة، فالمقهى ليست لك ولأمثالك، وليست للفارين من أمثالك، إذهبوا إلى المكتبات، عيشوا مع الكتاب، واتركوا الناس في المقاهي مع “المكتاب”، مع القدر الذي يلاحقهم…..
اذهبوا وحاربوا الغباء، و اتركونا نحن مع الغلاء.
المقاهي لنا لا لكم

“خذوا المكاتب والمكتبات وخلو لنا الكراسي….. كراسي المقاهي طبعا لا تذهب بعيدا”.

عبد الكريم حنين (من الفارين إلى المقهى)
إطار الدعم التربوي / الأكاديمية الجهوية لمهن التربية والتكوين البيضاء-سطات
حاصل على ماستر في العلوم السياسية والتواصل السياسي

عبدالكريم حنين

حاصل على الاجازة في العلوم القانونية وعلى إجازة في العلوم السياسية وعلى ماجستير في العلوم السياسية والتواصل الساسي ، وباحث في الدراسات الاسلامية والفكر الاسلامي ، مهتم بقضايا الفكر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *