سر الفارس الملثم

اصطفت الكتيبة خلف الأكمة العالية، كان كل فرسانها يرتدون لُثُمًا تشبه تلك التي يرتديها الطوارق سكان الصحراء، كأنما ذلك عرف من أعرافهم، كان يظهر في أعينهم أنهم أهل جلَد وصبر، وفي سواعدهم المشدودةِ المفتولةِ قسوةُ عيشهم وخشونته، مجرد النظر إليهم يبعث في النفس رهبة، لا شك أن الجيش الذي جاؤوا لقتاله سيعيش يوما عصيبًا! لو نظرنا خلف الأكمة لوجدنا أن معركة حاميةَ الوطيسِ تدور هنالك، يبدو أن أحد طرفيها يتفوّق على الآخر عدةً وعتادًا، ما أتاح له أن يرغم مقدمة الطرف الآخر على الارتداد للخلف. لكن إذا كانت المعركة تدور هناك فماذا تفعل كتيبة الملثمين هذه هنا؟

لتتضح الصورة أكثر، فتاريخ هذا اليوم هو 23 أكتوبر من سنة 1086م، أما المكان فهو شبه الجزيرة الإيبيرية، حيث أرض الأندلس، التي هي حاليا أرض إسبانية، هذا اليوم يعد لحظة فارقة في تاريخ المغرب الإسلامي، إذ فيه حدثت معركة الزلاقة الخالدة، بقيادة الأمير المرابطي يوسف بن تاشفين، الذي استنجدت به الإمارات الأندلسية يومئذ ليخلصها من بطش القشتاليين الصليبيين، بعد أن كثرت غاراتهم على الأندلسيين حتى احتلوا مدينة طليطلة وفرضوا الجزية على بقية الممالك، فما كان من الأمير المرابطي الشهم إلا أن لبى نداء إخوة الدين، وعبر البحر الأبيض المتوسط ليلقّن ألفونسو السادس ملك قشتالة وليون درسا قاسيا.

وقد كان أهم عامل في انتصار المرابطين هو خطة ابن تاشفين العبقرية، حيث أبقى على كتيبة يقودها هو بنفسه خلف هذا التل العالي، وطلب من بقية الجيش المكون من بعض الأمراء الأندلسيين كالمعتمد بن عباد والمتوكل بن الأفطس أميرَيْ إشبيلية وبطليوس إضافة إلى قسم آخر من الجيش المرابطي، أن يصمدوا قدر المستطاع أمام القشتاليين، وانتظر هو بكتيبته حتى اللحظة التي شعر فيها القشتاليون باقترابهم من النصر، فانقض عليهم وهم لا زالوا في سكرتهم فهزمهم شر هزيمة.

على أية حال كتيبة الملثمين لم تنضم بعد للمعركة، لا زالت مصطفة بجانب التلة، تنتظر أمر قائدها بالانقضاض على القشتاليين.. (عبدالله) و (إيدير) فارسان من الكتيبة، هما رفيقان لم يفترقا منذ انضمّا إلى جيش ابن تاشفين، لو اقتربنا منهما لوجدنا أن (عبدالله) يقرب رأسه من رفيقه ويهمس في أذنه:

— «هل ترى الرجل الذي أمامنا يا (إيدير)؟ لم يسبق لي أن رأيته في الجيش، هذه أول مرة أراه، أخشى أنه جاسوس من جواسيس ألفونسو! انظر كيف يلتفت يمنة ويسرة كأنه لا يدري ما يجري حوله، يبدو واضحا عليه عدم الاطمئنان، صحيح أنه يلبس نفس لباسنا، لكن يظهر من عينيه التوتر والخوف، ومن لون بشرة ساعديه أنه ليس من قومنا.»

— «كذا عهدتك يا (عبدالله)، دائما تضع أسوأ الاحتمالات، هون عليك يا صاح، لعله حديث عهد بالجيش، لا تنس أن الأمير قد فتح الباب للمتطوعين هذا العام، لحاجته الشديدة لزيادة عدد الجنود، فلعله شاب انضم حديثا ولم يسبق له أن خاض معركة في حياته، لذلك هو خائف، هكذا كنا نحن أنفسنا حين انضممنا أول مرة، أ نسيت أنك في أول يوم لك قد بلّلت ظهر فرسك من شدة الخوف!».

وأطلق ضحكة عالية، فنظر له صديقه شزرا وقال باستياء:
— «وترى هذا وقتا مناسبا للمزاح يا عبدالله؟! أحدثك بجد يا رجل، لا يريحني هذا الرجل البتة، لا يريحني».

***********

على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، على بعد مئات الكيلومترات من شبه الجزيرة الإيبيرية، وبعد حوالي ألف سنة من هذه المعركة، كان يعيش محمود.. شابٌّ مغربي بسيط، يعيش حياة عادية جدا، هذه سنته الأولى بالجامعة في شعبة التاريخ، لا يملِكُ أصدقاءَ لأنه لم يجد شخصا يتآلف وإياه، حتى تلك الفتاة التي كان مُعجَبًا بها ويحاول التقرب منها قد ظفر بها حسام، ذلك الوغد الوسيم مفتول العضلات، الذي لم يكن هناك مجال أمامه لينافسه، إن محمود كما ترى نموذج حي للفشل الاجتماعي، لذلك اختار لنفسه العزلة، لا يملك إلا كتبه وأفكاره وخواطره، لقد كان يعيش داخل نفسه أكثر مما يعيش داخلها لو جاز لنا قول ذلك.

هو الآن في حصة دراسية، وليست هذه المرة الأولى التي يغلبه فيها النعاس أثناء حصة دراسية، لقد صارت هذه عادةً لديه، ما إن يبدأ الدرس حتى يشعر بجفنيه قد بدآ يثقُلان، ثم لا يلبث أن يستغرق في نوم عميق لا يوقظه منه إلا قطعة الطبشور التي ترتطم برأسه بعد أن رماه بها الأستاذ، الذي تجدرُ الإشارة إلى أنه يدين لمحمود بتحسن دقته في التصويب، لقد كان رأس هذا الفتى هدفًا لتسديداته طيلة موسم دراسي كامل. لكن والحقُّ يقال، إنها لَحِصةٌ مملة كئيبة، قل لي بربك ما الذي سيستفيده شاب في عمر محمود من معرفة عدد رؤوس الأغنام في طاجيكستان أو مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في جزر القمر؟! لقد كنتُ سأستغرِبُ لو بقي مستيقظا يتابعها!

كان يكرهُ الدراسة في الجامعة على الرغم من حبه للتاريخ، كان يرى أن مناهجها ميتةٌ وبالية، ومليئة بالتبعية وعقدة النقص الحضاري، لذلك قرر تعويض فراغها بالقراءة، وهو بالمناسبة قارئٌ لا بأسَ به، يقرأ كل ما يتاح أمامه، وقد كان مولعًا بكتب التاريخ المغربي الإسلامي، خصوصا التراثية منها. لذلك كانت الحصص الدراسية بالنسبة إليه فرصة ممتازة للنوم وتعويض ليالي السهر التي يقضيها بين كتبه، لكن ثمة شيئا غريبا يحدث معه في حالات النوم هذه، صار يدخل في أحلام تكاد تشبه الحقيقة، كان يشعر فيها بنفسه ويعِي المكان من حوله بأدق تفاصيله، غالبًا ما يزور في أحلامه هذه أماكن تعود لأزمنة قديمة تاريخيا، يظهر له ذلك من خلال أزياء الناس من حوله، كانت أحلامه تترجم التاريخ الذي يقرؤه، لذلك فكلها كانت تدور بين أناس عرب وبربر، يتحدثون العربية أو يمزجونها بالبربرية، وأزياءهم مطابقة للباس المغربي التقليدي.

كما قُلنا فهذه واحدة من المرّات التي يغلبه فيها النوم أثناء الدرس، وكما لك أن تتوقع فقد راوده حلم من تلك الأحلام إياها، إذ وجد نفسه بين فرسان ملثمين مصطفين خلفَ تلّ عالٍ، يرتدون لباس الطوارق سكان الجنوب، كان يلتفِتُ يمنةً ويسرةً يحاوِلُ استكشاف المكان من حوله، لَكم أصابه منظر أولئك الملثمين بنظراتهم الثابتة القاسية وأجسامهم القوية المفتولة بالذعر، كان خلفه فارسان يتهامسان حول شيء ما، لم يستطع تبيّن فحوى حديثهما، لكن ليس هذا هو ما يهمّ الآن، عليه أن يعرف ما هذا المكان ومن هؤلاء الناس، والأهم من ذلك.. أي زمن هذا؟! إن وعيه الشديد هذا بأدق التفاصيل من حوله يجعله يشك في أن هذا حلم، إن هذا يبدو كأنه سفر.. سفر عبر الزمن!

*********

قال (إيدير) لرفيقه (عبدالله) الذي كان ما يزال غارقا في تفكيره:
— «يبدو أن الشك لم يفارق رأسك يا (عبدالله)».. ثم ربّت على كتفه وأضاف: «لا تنس أننا على وشك خوض معركة، فاحتفظ بقوة ذهنك ولا تبددها في الظنون الخاوية!».
— «لو تدري كم يقتلني الفضول لأعرف من هذا الرجل يا (إيدير)، إن الشك يكاد يصيبني بالجنون، تخيّل لو كان جاسوسًا زرعه الكلب ألفونسو بيننا! إذن لذهبت كلّ جهودنا أدراج الرّياح، دعني أتفقد أمره..»

اقترب (عبدالله) بفرسه من (محمود)، ووضع يده على كتفه، فاستدار الأخير مفزوعا إلى الخلف، فبادره الملثم بالسؤال:
— «لم أركَ في الجيش من قبل يا هذا، ما اسمك؟».
ارتعدت فرائص (محمود)، وقال بصوت مرتجف:
— «اسمي.. (محمود)».
— «محمود ابن من؟ من أي القبائل أنت؟».
انعقد لسان محمود في هذه اللحظة ولم يستطع أن ينطق ببنت شفة، فعاود عليه (عبدالله) بنبرة أحدّ من سابقتها:
— «أ لا تعرف قبيلتك؟ سألتك من أي القبائل أنت، أجبني حالا.. وانزع هذا اللثام عن وجهك..».
وبحركة خاطفة خلع (عبدالله) اللثام عن وجه (محمود)، فظهر وجهه الخائف المذعور وبشرته البيضاء التي لا تشبه بشرة الملثمين الآخرين.. في تلك اللحظة صرخ (عبدالله):
— «جاسوس صليبي! جاسوس صليبي!».
فلم يشعر محمود إلا ويدٌ قويّة تجرّه من فوق فرسه لتلقيه أرضًا، وعشرة رجال يطوّقونه ويستلّون خناجرهم.. كان الشرر يتطاير من أعينهم، سمع أحدهم يقول:

— «هكذا هو ديدنكم أيها الخنازير الكفرة، الغدر والخداع، تهاجمون الأطفال والنساء، فإذا جابهتم الرجال لجأتم إلى التحايل كالجبناء!..»

واختلطت كلماتهم جميعا بين سب ولعن ووعيد.. وفي لحظة رفعوا خناجرهم جميعا لأعلى ليهووا بها على (محمود) المسكين، الذي لم يفهم كيف تحول في دقائق معدودة من طالب كسول ينام في القسم إلى جاسوس صليبي كافر.. خُيّل إليه لوهلةٍ أنّه يرى انعكاس وجهه المذعور على خناجرهم اللامعة.. لكن في اللحظة التي كان على وشك أن يتحول فيها إلى لحم مفروم، شعرَ أن شيئًا صُلبًا أصابَ رأسَهُ فأظلمت الدنيا في عينيه برهةً، ثم فتح عينيه ليجد أنه في القسم مرةً أخرى، وأستاذهُ ينظرُ إليهِ شزْرًا بعد أن رماه بقطعة الطبشور، وزملاؤه يطلقون ضحكات مكتومة ساخرةً منه..

التقط أنفاسه بصعوبة، فما عاشه قبل قليل كان كفيلا بأن يخلع قلبه من مكانه.. لكنه إلى الآن لم يعرف أي زمن كان ذلك ولا من أولئك الملثمون، لكن ليس وقت التفكير في هذا الآن، فليفكر فيه فيما بعد عندما يعود لبيته، أما الآن فسيحمد الله على سلامته، ويحاول أن يركز مع شرح الأستاذ حتى لا يغلبه النوم مرة أخرى فيعيش تجربة مماثلة، إن الاستماع لما تبقى من هذه الحصة المملة أفضل من رؤية جسده ممزقا لأشلاء في جميع الأحوال.. أخيرا نظر محمود إلى قطعة الطبشور الملقاة أمامه، وابتسم ابتسامة امتنان خافتة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *