عندما تصبح وقودا فقط

بعد مسيرة دراسية تدوم لسنوات عديدة قبل البكالوريا والتعليم العالي، تجد نفسك في مرحلة البحث عن عمل ومصدر رزق، سواء بالقطاع العام باحثا عن الاستقرار والعمل غير الشاق، أو القطاع الخاص بما فيه من فرص الارتقاء المهني والأجر الرفيع؛ وبين هذا وذاك، اخترت –مما بدا آنذاك أنها كانت قناعة- البحث عن الذات المهنية في القطاع الخاص ظنا مني أن النجاح فيه مضمون رغم صعوبته.

وهأنذا بعدا ست سنوات أنسج آخر خيوط الحياة المهنية في القطاع الخاص بعد العمل في أكتر من شركة من ذوات الأسهم أو من يلقبون ب “مَّالِين الشكارة”، لأصل إلى قناعة تامة مفادها أن الكل يشترك في جعلك وقودا تحت مسمى Carrière بطرق وأشكال متعددة تبدو من ظاهرها مختلفة لكن في باطنها تملك نقطة مشتركة “أنت مجرد وقود”.

ذلك المثال المتجلي في الشخص الأنيق، صاحب البذلة الرسمية النظيفة من عملية “التصبين” المتكررة، بربطة عنيقه Cravate الأنيقة والابتسامة التي لا تفارق محياه وصباح الخير على مضض بصوت جميل، يخفي من ورائه معاناة نفسية وإرهاقا سمعيا؛ قد تجده انتهى للتو من اجتماع مع رئيسه الذي انكب عليه بأسئلة لا جواب لها غالبا وتدور كلها حول سؤال: لماذا لم تصل إلى الأهداف المسطرة؟ لماذا تملك نسبا مرتفعة من الزبائن ذوي القروض غير المسددة؟ وكأنه المتحكم في الظروف الاقتصادية والمعيشية، ثم يضطر عند لقائه الزبون لرمي كل هذا أو بالأحرى الاحتفاظ به في جانب من عقله، واستجماع كل قواه للتحدث معه بلطف رغم أسئلته الكثيرة واستفزازاته، فبداخله حوار آخر: حاجتي إليك تفرض علي التعامل معك لعلك تكون طوق نجاتي لهذا الشهر!! آه كم أكره هذا العمل والتملق

العمل متعدد الجوانب
صورة تعبيرية

انتهت هاته التجربة في القطاع شبه البنكي بعدما يقارب السنتين لكي أتحول لنوع آخر من شركات “الباطرونة“، حيت أنك لا تكون “أجيرا” فقط، وإنما يعاد تصنيفك إلى يقوم بكل شيء وفي أي وقت، على أساس أنك تأخذ من جيب “المعلم” أجرا سمينا ولو أنه لا يتعدى دريهمات، كما أن شرط بقائك وقربك منه رهين بإمدادك له بأخبار أروقة المكاتب أولا بأول.

كانت على صعوبتها تجربة مفيدة لفهم واستيعاب “موديل المعلم” ومحركاته وطرق تسييره للشركة، وعاينت عن قرب خوف الناس على مصدر رزقهم بالبحث عن المدير التقرب منه، كما اكتشفت الأنا المتضخمة التي يمتلكها.

بعدا كل هذا، ظننت أنني سأجد ضالتي في الشركات ذات الأسهم العالمية بحكم أن الكل يشتغل لصالح مجموعة غير معروفة، لكنني مع مرور الوقت واستنزاف الجهد ومص الدماء والاشتغال لساعات إضافية قد تصل لضعف اليوم، اكتشفت أن هاته الصورة الظاهرية تخفي وراءها استغلالا متوحشا وارتقاء الآخرين على حساب مجهودك الشخصي، كما أنه مهما بلغ أوج عطائك لن تجد تقديرا أو اعترافا، أو على الأقل أعذارا.

هذا الحديث ليس شيطنة للعمل في القطاع الخاص، غير أنه محاولة للفت الانتباه حول ما يختفي تحت المكياج كي لا تسقط في هاوية المسيرة المهنية Carrière وتنسى أن العمل جزء من الحياة وليس كل الحياة، فنحن نعمل لنعيش ولا نعيش لنعمل.

عندما تصبح وقودا فقط

إسماعيل الطوير

Je suis un cadre en Etat, j'aime l'écriture

تعليق واحد

  1. برافو 👏🏻 👏🏻 وصف دقيق للواقع المر الذي يعيشه أغلب الموظفين في القطاع الخاص

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *