تأملات في صورة الإنسان المتأزم عند ديستوفسكي

1. ضحايا القوة !

2. جزء من مأساة الانسان

3. المأساة الابدية

“لقد كتب على الانسان أن يعيش في تحد دائم. إنه ليس في حاجة إلى السعادة فقط، فهو يحب العذاب وأحيانا يحبه بشغف”.

أزمات الصرع التي كان يعاني منها فيودور ديستوفسكي، وأزمات الصرع التي انتابت معظم شخصيات رواياته، تمثل مأساة هذا العصر، بل مأساة الإنسان منذ بدأ الكون حتى يومنا هذا، وستظل مأساته طالما ظل طغيان واضطهاد.
وأشخاصه الذين عانوا من الصرع كانوا عقلاء حائرين، نظروا إلى ذات الإنسان واستشفوا أغواره، وأدركوا أن الانسان مكتوب عليه أن يخوض معارك لا تنتهي ضد كل شيء، حتى ضد ذاته وضد شيطانه وأن هناك عنصرا غريبا مجبولا في ذات الانسان يحمله على التمرد ويقوده نحو الجنوح، ولكن لا يحمله أبدا على أن يخلد إلى السكينة أو أن يتوقف عن النضال، بل يخلق فيه قوة جديدة وحافزا جديدا لمواصلة الكفاح بعنف أشد وتصميم أقوى، مسمرا ناظریه وإرادته على شيء واحد هو؛ ألا تسحقه صخرة “سيزيف” والا يستسلم أمام “لعنة الالهة“. هذا الادراك الواعي لمأساة الإنسان هو الذي جعل الشخصيات الروائية التي خلقها حائرة قلقة مضطربة، وأحيانا مصروعة يدفعها الصرع إلى أن تتخذ مواقف متطرفة ما كانت لتجرؤ على إعلانها لو أنها ظلت عاقلة متزنة سوية. ولهذا كانت شخصياته الروائية مريضة “في نظر البعض“، و “حائرة” لدى البعض الآخر، و “غير سوية” لدى فريق ثالث، لعمق قرفها من الرياء البشري، وفوضى الكون، ونقمتها على عالم الخطاة، عالم الأذلاء المقهورين وعالم الأقوياء الطغاة. ولكنها كانت في غور ذاتها عاقلة ذكية مدركة. ولولا ذلك لما ثارت ضد الطغيان بهذا العنف، ولما تمردت على التقاليد الجائرة، ولما انتفضت على كل شيء حتى على الله.
إن “ايفان كرامزون” أحد ابطال رواية “الاخوة كرامزوف” الذي ينهشه الشك الحائر القاتل يندفع في تمرده على الله إلى درجة نكرانه ونكران كل صفاته لأنه لم يستطع أن يفهم كيف خلق الله هذا العالم، ويسمح فيه للطفولة أن تتعذب وتتألم. “أهذا هو عدل الاله؟” إن كان حقا فهو عدل يعذبه ويصيبه بالتشنج.

1. ضحايا القوة !

وتمرده على الله جزء من مأساة الإنسان الذي لا يستطيع أن يعيش بدون إله، ويضنيه البحث عن الله في الوقت ذاته. ولهذا، فعلى الرغم من تكرار مواقف التمرد على الآلهة في شخصيات دستوفسكي في رواياته؛ الجريمة والعقاب والمعتوه والإخوة كرامزوف والمراهق.. وغيرها فإننا نرى أن كل المذلولين المضطهدين كانوا يحملون أسماء توحي بعمق ايمان أشخاص دستوفسكي وتوقهم إلى انتصار الخير والمحبة والفضيلة التي بشرت بها الأديان، وبشر بها صاحب الانجيل الذي ينتمي إليه دستويفسكي عقيدة وضميرا. إن أسماء ضحايا القوة والاقتدار من أمثال “صوفیا مرميلادفوف” و « فارنكا » الفقيرة و « أنستاسيا » و « وماريا تيموفيفنا » وغيرها مشتقة من أسماء دينية تقية مؤمنة بالله. فاسم «صوفيا» مشتق من صوفيا أي الحكمة، واسم «ماريا» يرمز الى العذراء مريم والدة السيد المسيح، وحتى الأرض الروسية “أرض مقدسة” سيولد فيها المسيح الجديد الذي بشر به المعتوه « موشكين » والذي سيفتدى شعب الروسيا.
هذا الإيمان العميق حين يصطدم مع واقع الحياة وفوضاها، ويحببه باضطهاد الانسان للإنسان: يصاب بخيبة أمل ونكسة يائسة مدمرة: أهذا هو العدل؟ أهذه أخوة الانسان للإنسان؟ أهذه هي شفقة القوي على الضعيف؟ هذا التساؤل الواعي المدرك هو الذي جعل كل شخصيات دستوفسكي متوترة على الدوام ومتشنجة يدفعها التشنج نحو التمرد، ويسوقها التمرد إلى العنف، ويتجسد هذا العنف على شكل اعتداء أو قتل أو اغتيال. ثم يعقب ذلك الصراع النفسي الرهيب وتأنيب الضمير الذي لا يغفر الإقدام على الفشل ولكن واقع الحياة التي يسيطر عليها الأقوياء المستبدون يضيق الخناق على الإنسان المضطهد المذلول، ويضعه امام اختیار عسير لا مناص منه، فيقدم على القتل وهو مشلول الإرادة، مشلول الفكر.

2. جزء من مأساة الانسان

وهكذا تتجلى لنا حياة الانسان في روايات “الإخوة کرامزوف” و “الجريمة والعقاب” و “المعتوه“، وغيرها وكأنها محطات لا نتوقف عندها إلا لكي نقتل أو لكي نموت. ومن لا يقتل أو يموت يحوطه صمت مطبق عميق وتأمل حزين مأسور في واقع الحياة واضطرابها.
وهكذا نرى أن شخصيات دستوفسكي لا تتحرك على مسرح الحياة كما يشاء لها القدر أو الهوى. ولكنها شخصيات نابعة من ذات كل واحد منا. وإنها تمثل جزءًا من حقيقة الإنسان، بل مأساته. وتنير لنا جوانب من ذاتنا وتتحدث عنها، فنرى ذاتنا مرسومة أمامنا ببراعة وصدق وواقعية. ونرى أنفسنا مشدودين إلى الله في اللحظة التي نجحده ونتمرد عليه، و نرانا نحب الانسان ونعانقه في اللحظة التي لم تجف فيها الدماء على أيدينا الملطخة بدمه. في ذاتنا يتعايش الإذلال والاستبداد، والرحمة والقسوة، المحبة والقتل، الله والشيطان، والامل واليأس، الاطمئنان والشك، ولكن زورق الإنسان لا يغرق ولا يستقر، بل هو جانح على الدوام، لا يستقر عند شاطئ ولا يرسو عند مرفأ.
إن مأساة الانسان هي في هذا العذاب الذي يمزق مشاعر المقهورين والمذلولين ويحطم أعصابهم، ويُفقدهم القدرة على السلوك السوي والتصرف السليم، ولكن هذا “العذاب” ضرورة لا غنى للإنسان عنه، لأنه بدون ذلك لا تتطهر الذات الإنسانية، بدون ذلك لا يولد الضمير، ولا يخلق الإحساس بالتعاطف والتراحم مع الآخرين.

3. المأساة الابدية

وقد كتب دوستوفسكي مرة مقالا رد فيه على آخر. يرى أن الإنسان خيّر بطبعه، وأن كل شر يأتيه من المجتمع، فقال له: «لقد كُتب على الإنسان أن يعيش في تحد دائم. واشترك في هذا التحدي فكر الإنسان من أرسطو حتى كانط ومن جاء بعدهما. إن الإنسان ليس بحاجة إلى السعادة فقط، إنه يحب العذاب وأحيانا يحبه بشغف».
العذاب هو المصدر الوحيد للضمير“. العذاب هو “المُطَهِّر” الذي تتطهر فيه النفوس من أدرانها. والعذاب هو أيضا “الجحيم” الذي يتعذب فيه الأقوياء الجبارون أمثال «بيلوف » و “مورین” و “زوجوجين “، الذين أصبحوا أسری شرورهم و رذائلهم  ولكنه لا يطهرهم بل يظل يعذبهم ويمزقهم ويحرقهم .
ومن خلال العذاب تولد مأساة الإنسان، ويموت إنسان هذا الجيل، ولكنه يخلف للجيل اللاحق مأساته الأبدية مأساة اضطهاد الانسان للإنسان…

حمزة لغزال

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *