صناعة التفاهة

من المسؤول؟

واقع التفاهة

تظهر من حين لآخر موجات استنكار للإنتاجات التلفزية والصحفية أو حتى صناع المحتوى، ويعتبرها البعض أنها تشكل أداة للاستخفاف بذكاء المشاهد، أو بتعبير آخر محاولة “لاستغبائه” متضمنة محتويات لا تعكس الواقع الحقيقي للمجتمع، ولا تعطي صورة إيجابية عنه.

لكن المثير أنه بالرغم من هذه الانتقادات الحادة، تحصل المحتويات الأكثر انتقادا على مشاهدات بالآلاف، وإن تعلق الأمر بفضائح عن الحياة الخاصة للفنانين أو الشخصيات العامة خصوصا منها السياسية، فالمشاهدات بالملايين؛ وفي هذا الإطار، لم أجد تشبيها أبلغ من العبارة التي تضمنها مؤلف “أفول الغرب” لحسن أوريد وهي: “ثم هناك سيل من مسؤولي الإعلام المكتوب والمسموع والمشاهد يتلقفون خرجة السياسي ليستخرجوا منها جملة صغيرة أو فكرة نيرة يرددونها في وسائل إعلام أخرى ويجعلون منها كرة ثلج”، للاستدلال عن حجم تضخيم الأحداث من قبل الإعلام، وفي تشبيه لما أصبح عليه المحتوى الإعلامي اليوم.

فأمام اتساع مجال الإعلام والصحافة وصناعة المحتوى، أصبح الحد الفاصل بينهم رفيعا، وكل منهم يريد أن يتصدر اهتمام المشاهد وإرضاء فضوله بكافة الطرق والمواضيع، وإن كانت هذه الأخيرة تكتسي طابع الغرابة.
وقد أصبح الآن، المحدد الأساسي لتصنيف مدى وعي المجتمع يتم من خلال نوعية المحتويات الرقمية التي تستأثر باهتمامه، فنوعية الإعلام السائد وصناع المحتوى المهيمنين على الساحة الرقمية، ما هو إلا ترجمة لعقلية “المتلقي” برغم من أن الرأي العام يؤمن بعكس هذه المعادلة، ويعتبر نفسه أنه ضحية مؤامرة وضعتها أجندات خفية للإيقاع به وللنيل من ذكائه الخارق (يا للعجب)، فيغدو الأمر أشبه بما تحدث عنه جورج أوريل في روايته “1984”، أن “الأخ الأكبر يراقبكم”، في حين أن صناعة الغباء والتفاهة والخضوع لها، لا يستدعي تسخير أي مجهود، بل يكفي أن لا يستحضر المرء ضميره الأخلاقي ويرحب بالقذارة الرقمية.

لذا فأي محتوى تافه لا يتطلب الكثير، فقط حدوث توافق بين مكونين أساسين: “الصانع أو المنتج” و”المستهلك أو المتلقي”، لكن ما يجب إدراكه هو أن ثقل هذا المنتوج يقع على عاتق “المستهلك” بالدرجة الأولى، فهو المتحكم الرئيسي فيما يبث سواء على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائط الأخرى..، فالمشاهد هو من يصنع من “العدم” “شيئا”، ومن “النكرة” “معرفا”، ومن “التافه” “شخصا عاما”.

يوتيوب والتفاهة
صورة تعبيرية

عندما يتكلم المال تصمت الأخلاق

الرغبة في الربح تعد الهاجس الأول للانصياع أمام المواضيع المثيرة للجدل وفي بعض الأحيان الغريبة، بغاية استقطاب أكبر عدد من المشاهدات، وبالتالي تحقيق أكبر مدخول، وهذا الأمر عرى الجانب المادي المتوحش لدى “المنتجين”، ولو اقتضى ذلك عرض محتوى مخل أو لا إنساني، إذ أضحت الكرامة والحياة الخاصة للأسر والأفراد مفهوما فارغا ودون معنى، وأصبح المشاهد من خلال ضغطة زر عبر “خاصية اللايف أو الستوري” أكثر دراية بلون أرضية المرحاض، وأفرشة غرف النوم، أما استعراض الأجساد فلعلك ترضى، بكل الأشكال والأنواع.

وما يدق ناقوس الخطر أن صناعة التفاهة لم تستبح فقط الأجساد، بل القيم كذلك، فلم تعد للحظات الخاصة حرمتها: لحظات الحزن، الموت، المشاكل الزوجية، أجساد الأطفال، كلها تعرض كبضاعة رخيصة الثمن، ومن “يكبس” أكثر يكون نصيبه من أوفر من الفظاعة واللا-أخلاق، فقد أصبحت تجارة الأجساد والحياة الخاصة مربحة وبدون تكلفة عالية، على الأقل في تلك اللحظة الآنية.
وما يثير الاستغراب أنه تم التطبيع مع هذه الأفعال التي كانت تشكل في السابق ضربا للقيم والأخلاق، أما الآن، يتم التعاطي معها على أساس أنها أمر مباح، ومرغوب فيه، والأكثر من هذا، أن التفاهة أصبحت مبررة وتبدو إلى حد ما منطقية بالنسبة للمتلقي.

صحافة تابلويد (الصحافة الصفراء)

كانت في السابق عبارة “الصحافة الصفراء” توحي بذلك المنتوج الصحفي البخس من حيث قيمة الأخبار ونوعيتها، والتي تركز على أخبار “الفضيحة” المثيرة للجدل، فبعد أن تراجعت في فترات محددة، عادت من جديد لأوج عطائها مع الصحافة الالكترونية، التي تستلزم عنصر السرعة، بالخصوص في مواجهة “المواطن الصحفي”، وكذلك في ظل تراجع الإقبال على الصحف الورقية، وبالتالي أضحت “تجارة التفاهة” تجارة مربحة ومريحة، فهي لا تتطلب جهدا كبيرا للتقصي والتأكد من مصداقية الخبر، بل الغاية فقط خلق نوع من “البوز“، وإضفاء الطابع الدرامي على الأحداث بغاية استقطاب اكبر عدد من المتفاعلين مع الحدث، بغض النظر عن مدى صدقيته.

أما أخلاقيات مهنة الصحافة التي يفترض أنها ترسم حدودا معينة لا يجب تجاوزها، أصبحت مجرد “حائط قصير” كما يقال بالعامية، وبالتالي استحضار الضمير المهني مستبعد لدى بعض المنابر الصحفية، أمام الرغبة في استقطاب أكبر عدد من الزوار أو المشاهدات، وقد شكلت “قضية الطفل ريان” مثالا عن هذا النوع من هذه التجاوزات، إذ نشرت له صور وهو في وضعية إنسانية صعبة، والأمر الذي استنكره المجلس الوطني للصحافة، وقس على ذلك مجموعة من التجاوزات الأخرى، بحسب القضايا التي ينجرف إليها الرأي العام.

التفاهة
صورة تعبيرية

لذا فالصحافة تشكل اليوم مرآة للواقع، والمحتوى الذي تعرضه تعكس من خلاله رؤية المجتمع وتوجهاته، حيث يطغي عليه الجانب الدرامي وإثارة الجدل، انطلاقا من أحداث تافهة، لكن مبررها دائما أنها تلبي رغبة المشاهد “كونها تستهدف الربح بالدرجة الأولى، والربح يقتضي تسليط الضوء على اهتمامات الجمهور وما هو متعطش لرؤيته، وإن كان ذلك يخالف أخلاقيات المهنة”.

استهلاك التفاهة: ضريبة مؤجلة ومضاعفة

التعاطي للتفاهة ليست وليدة اللحظة، فقد كانت دائما “التفاهة” مثيرة للفضول لدى العامة، لكن بنسب متفاوتة، وغير منتشرة بالشكل الذي هي عليه اليوم، فبالنظر إلى حجم التعاطي مع هذا النوع من الإنتاجات، أصبح الإقبال عليها مسألة عادية ومقبولة، أمام جيل جديد يرى أنه لا مجال للاغتناء السريع إلا أمام منصات اليوتيوب والتيك توك، أما عتبات المكتبات والجامعات فلا تسمن ولا تغني من جوع بالنسبة لهم، فلم تعد تستهويهم مدرجات الجامعات ولم تعد الكتب المتراصة على رفوف المكتبات منظرا مغريا بالنسبة لهم، ليس لأنهم أُميين بالمفهوم التقليدي المتعارف عليه، بل هو نوع جديد من الأمية، يصطلح عليه ب “الأُميين الجدد”، هذا الوصف أطلقه “آلان دونو” في كتابه المعنون بنظام التفاهة في حديثه عن التفاهة والمتعاطين لها، من خلال العبارة الآتية: “يمكنك وصف أميتهم بالهجينة والمزيّفة، فهي نتاج التعليم الحديث، وبشكل عفويّ هم تجسيدٌ لخطاياه. هؤلاء هم الذين يعرفون كيف يقرؤون، لكنهم على الرغم من نواياهم وما يطمحون إليه؛ يظلّون أميّين، وأنا أسمّيهم الأميّين الجدد”.

ولا غرو، أن تنامي نسبة “الأميين الجدد” له ضريبته، لكنها باهظة، فالتسابق نحو الشهرة والسعي لتصدر قائمة المشاهدات في منصات اليوتيوب وغيرها، يتطلب إرضاء جشع المشاهد وفضوله؛ بالخصوص في تقنية اللايف، من خلال ما يعرف ب “تشالنج” “CHALLENGE”، إذ يتحدى المشاهد صانع المحتوى بالقيام بحركات بهلوانية، وتارة إيحاءات جنسية، وتارة أخرى أفعال سادية ومتوحشة، وما عليه إلا ينفذ في سبيل أن يحقق نسب عالية من المشاهدات، لإرضاء متابعيه الذي أصبح رهينة لهم.

هذا الحال، الذي أصبحت عليه مواقع التواصل الاجتماعي مؤشر لانهيار منظومة القيم لدى المجتمع، وتدني مستواها، التي تتعدد أسبابها، لكن النتيجة واحدة، وهي اندثار القيم والأخلاق الإنسانية الأمر الذي ستكون آثاره وخيمة على الأجيال القادمة، كوجود هوة بين فئات المجتمع، فئة مثقفة متعلمة وواعية بأدوارها اتجاه المجتمع، وفئة أخرى في سبات عميق وتعيش في العالم الافتراضي وتقتات منه، وبالتالي وجود فوارق فكرية بين فئات المجتمع، فئة تشكل النخبة، وأخرى في الحضيض.

صناعة التفاهة

فاطمة الزهراء حبيدة

باحثة في القانون العام والعلوم السياسية

تعليق واحد

  1. كارثة حقيقية، أضحى الكسب السريع للمال مسوغا لكل الأفعال.. ناهيك عن أن قلة التربية وضعف الوازع الديني من أكبر الأسباب المؤدية لما نراه اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *