من فاس ظهر المهراز إلى الدار البيضاء بنمسيك

تفاصيل الرحلة

1. بدايةً

2. الوصول إلى مدينة الدار البيضاء

3. كلية الآداب بنمسيك

4. الدار البيضاء بعيون سكانها

5. أفكار عن الدار البيضاء

6. خلاصة القول

………………………………………………………………

1. بدايةً

كان التخرج من سلك الإجازة بكلية الآداب ظهر المهراز بمدينة فاس، وبعدها البحث عن إكمال المسار الجامعي عبر الالتحاق بالماستر. فأُتيحت هذه الفرصة بمدينة الدار البيضاء.
وقبل التنقل لهذه المدينة، كانت تتقاطر على الذهن عديد الأسئلة، والتي يبقى منها؛ كيف هو الماستر من الداخل؟ وكيف يختلف عن الإجازة؟ وما هو مستوى التكوين في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك؟ وكيف هم أهل البيضاء بدون تعميم؟ وما الفرق بين العيش في مدينة فاس والعيش في مدينة الدار البيضاء؟
أسئلة وأخرى حضرت، والعقل كان يشتغل طول الوقت ويحاول أن يراقب ويحلل عشرات المعلومات والمَشاهد الغريبة عنه كل يوم في مدينة “غريبة” هي الدار البيضاء.

2. الوصول إلى مدينة الدار البيضاء

أول ملاحظة، والتي لا يمكن نسيانها في شوارع الدار البيضاء وأنا في سيارة الأجرة، هي مَشاهد في قمة التناقض؛ فهنا نجد مثلا عدة مناطق صغيرة فيها منازل متواضعة، بل ومهترئة، يوجد بجانبها المشرّدون من مختلف الأعمار؛ خاصة الأطفال وكبار السن، وعلى بعد أمتار قليلة نجد منازل وسيارات فخمة وأناسا بربطات العنق المخططة.
مشهد في القمة الرعب!

وهو يؤكد بوضوع ما قاله أحد المواطنين المغاربة لِلّجنة المكلفة بإعداد النموذج التنموي المغربي، حين قال ما يفيد أن التباينات في المغرب مخيفة، وهذا  “يقوي الفجوة بين من يتوفّرون على كل شيء ومن لا يملكون أي شيء“. (النموذج التنموي الجديد، التقرير العام. 2021م، ص20، بتصرف).

ومع أول احتكاك لي مع شاب قاطن بالدار البيضاء ساعدني مشكورا على حمل الحقائب، تكلمنا قليلا في الطريق، وأول مسألة تكلمنا عنها قوله باختلاف اللهجة التي أتكلم بها معه، والتي أكّد بأنها غريبة عن الدار البيضاء، حتى أوضحت له بأن غالب سنوات حياتي عشتها في مدينة فاس، وكان من الطبيعي أن أتأثر بطريقة كلام “أهلها الجدد” – أي غير لغة أهل فاس الحقيقيين الذين يتكلمون “بالراء” – وعبّرتُ للشخص الذي ساعدني عن اندهاشي أيضا من لهجته، والتي هي طبعا شائعة إعلاميا، لكنها كانت تبدو لي حينها تشبه ما يتكلم به سكان الرباط.

3. كلية الآداب بنمسيك

أول إحساس أحسست به عند الاحتكاك مع بعض أساتذة ماستر بنمسيك الذي تسجلت به – أقصد الأساتذة الرئيسيين في تدريس كل مادة – هو أنهم موجودون على رأس عملهم بفضل كفاءتهم، ولا شيء غير ذلك. بل ما جعلني أحترمهم أكثر هو إيمانهم بالتخصص، وأن كل أستاذ له تخصص معين يتكلم فيه، ويحيل إلى زميله عند التكلم خارج التخصص.
ويلاحَظ أن كلية الآداب بنمسيك صغيرة جدا من حيث المساحة بالمقارنة مع كلية الآداب ظهر المهراز، بل إن موقع ظهر المهراز هو في الأصل يجمع في واقعه ثلاث كليات، هم؛ الآداب والعلوم والقانون. إلا أنه رغم المساحة الضيقة، فإن الأنشطة التي تُنَظَّم بكلية بنمسيك لا تتوقف على مدار الأسبوع.
ويلاحَظ أيضا، أنه – لعامل صغر الكلية – هناك إمكانية رؤية العميد ونائب العميد وأفراد الإدارة من طرف جميع الطلبة، والاحتكاك بهم عند وقوع أي مشكل يستدعي التدخل، الأمر الذي ليس متاحا دائما في ظهر المهراز.
وتتعامل الإدارة في بنمسيك (أتحدث هنا عن نهاية سنة 2021م وبداية سنة 2022م) بصرامة في أوقات تنظيم الامتحانات وغيرها، وما يوضح ذلك هو الإعلانات المتتالية بخصوص عقوبات فصل الطلبة المتغيبين على نحو مستمر عن الكلية والامتحانات، وهناك إن لم تخن الذاكرة أيضا عقوبات في وجه من تم توقيفهم بسبب الغش.

ويتبين أن هاته الصرامة بالتحديد قادمة من كون أعضاء الإدارة وغالبية الأساتذة نشيطين جدا – كما يقال صارمون حتى مع أنفسهم -، وغالبيتهم كما سأكتشف أبواب الإعلام مفتوحة في وجههم، ويشاركون في ندوات ولقاءات وطنية، ويتفاعلون من مواقعهم خاصة مع قنوات تلفزية؛ بمعنى أنهم دائما تحت الأضواء ولا مجال تقريبا للخطأ.
يتبين من خلال الملاحظة أن الكلية غالبية طلبتها معروفين، والكل يعرف الكل، من الحراس في الباب إلى الإدارة وصولا إلى الطلبة. ومن السهل جدا تمييز الوافدين على الكلية من مدن أخرى، إن لم يكن من الوجه، فعلى الأقل عن طريق اللسان وطريقة الكلام. ويتبين من خلال تجربة الماستر أن الأساتذة منفتحون جدا وبصدق على الطلبة من مختلف المدن المغربية، وليست لديهم أيّة عقدة من هذا الأمر.
وفي بنمسيك، هناك شبه إجماع بين الطلبة أن الأساتذة لا يمنحون النقط العالية إلا نادرا، حتى بات الجميع في البيضاء يعرف ذلك. والحقيقة أنه حتى في ظهر المهراز نفس الأمر تقريبا، وتَكلّمتُ أيضا مع زميل بالماستر من مراكش ذكر أن جامعة القاضي عياض أيضا يوجد فيها نفس إشكال النقط، إلا أن طلبة بنمسيك يبدو أنهم يشتكون بحدة من هذا الأمر أكثر من غيرهم.
وفي بنمسيك، لا تتوقف أبدا سبورة الإعلانات عن حملها مستجدات تخص الأنشطة المتتالية بالكلية، وهناك قاعة محترمة المساحة تسمى “عبد الواحد خيري” تُنظّم فيها غالبية الأنشطة، وأكتشف فيما بعد أن هذا الأخير كان من الباحثين اللغويين البارزين في الكلية، توفي بسبب حادثة سير مفجعة رفقة ابنه سنة 2012م، وسُمّيت قاعة الأنشطة باسمه (وقد زاد احترامي للكلية بعد معرفتي بالأمر، فقليلة هي المبادرات من هذا النوع، ونادرا ما نجد الكليات تحتفي فعلا بأبنائها بهذا الشكل، الذي يخلد الاسم لسنوات بين الأجيال المتلاحقة)، وسمعت أيضا وأكثر من مرة، أن هناك بالكلية قاعة ضخمة تحمل اسم “عبد الله العروي” تخصص للأنشطة المسرحية، وتستخدم في المناسبات الكبرى والاستثنائية.
وفي بنمسيك، تغيب الفصائل الطلابية كما تقريبا مدينة الدار البيضاء بكاملها، لاختلاف طابع الناس فيها، والذي تبين لي من خلال الاحتكاك ببعضهم، أن غالب الطلبة يتوجهون للشُعب المرتبطة مباشرة بسوق الشغل، بل ويَعتبر البعض هناك، أن بعض الشُعب الأدبية فيها ضياع للوقت والمستقبل. وتَبَيّن في بنمسيك أن بعض طلبة الدراسات الإسلامية نشيطون جدا في مساعدة الطلبة وهم مبادرون أكثر من غيرهم.

4. الدار البيضاء بعيون سكانها

بالعلم أن سكان مدينة فاس يشتكون دائما من غياب فرص العمل وهجرة الميسورين من “رجال المدينة” إلى الرباط والدار البيضاء للاستثمار، وغياب حافلات في المستوى ومشاكل دائمة في النقل، والإجرام، … وغير ذلك. فسكان الدار البيضاء يعانون من مشاكل مختلفة نوعا ما، فإضافة إلى الاكتظاظ الذي من الطبيعي أن تتولد منه مشاكل عدة، تبين لي أن أهل البيضاء  يشتكون بالأساس من شبكة من المشاكل، لعل أهمها:
* الإجرام المتزايد، خاصة في بعض الأحياء المشهورة بذلك.
* تزايد نفوذ “الطرامواي” – الذي سأراه لأول مرة وسأدرك أنه على ما يبدو خليط من القطار و”الطوبيس” ويمشي على سكة خاصة به في وسط المدينة -، قلت تزايد نفوذه على حساب المساحات الواسعة للطرقات (هذه شكوى بعض أصحاب سيارة الأجرة وبعض المواطنين الذين لا يستعملون “الطرامواي”).
* انتشار ما يسمى “بالكوتشي“، الذي هو عبارة عن حصان يجر عربة، وهو وسيلة نقل بثمن أقل (انتشاره يُضَيِّق أكثر على سيارة الأجرة حسب بعض السائقين ويُلوّث الشوارع حسب المواطنين الذين لا يُفَضِّلُونه).
* تَذَمُّر بعض المواطنين في “الطرامواي” من صعود الجماهير معهم في أثناء المباريات، وترديد هؤلاء الجماهير لأغاني وأهازيج أنديتهم، وذلك مقابل استمتاع مواطنين آخرين بهذا الأمر.

* تَضَرُّر بعض المحلات القريبة من ملعب محمد الخامس خلال أيام المباريات، بحيث إن غضب بعض الجماهير من خسارة الوداد أو الرجاء يدفع ثمنه جيران الملعب.
* غضب المواطنين من الأشغال المستمرة في المدينة، والتي لا تنتهي، ويرتبط غالبها حسب رأيهم “بالطرامواي”، حتى إن أحدهم قال “كازا ديما فيها الحفير، تݣول كيقلبو على الكنز“.

5. أفكار عن الدار البيضاء

في الدار البيضاء، عند كل مباراة للرجاء أو الوداد يتغير جو المدينة، لما هو جيد وسيء، وبخصوص هذا الجانب الأخير؛ أدركت حينها وللمرة الأولى العبارة المتداولة بأن التعادل في الديربي، الفائز فيه الحقيقي حينها يكون هو “الطرامواي“، وصرت أعرف أيام المباريات، فقط عندما أرى الشرطة تحرس “الطرامواي“، الكلمة التي يختصرها سكان المدينة ب”الطرام“.
في الدار البيضاء، لا مكان لكلمتي “دري/بنت” كما هو الحال في مدينة فاس، بل المتداول هو “دري/درية” في إشارة إلى الطابع الرجولي الذي يتم إضفاؤه على الإناث.
في الدار البيضاء، زرت مسجد الحسن الثاني، وشاهدت زاوية منه عن قرب من الخارج، ليتضح لي أن الإعجاز فيه يفوق مساحته، إلى موقعه، وذلك لكونه بجانب البحر، والأمواج تُسمع. وكما سمعت من زملاء هناك، أن فكرة جمالية مسجد تحيط به أمواج البحر، تطرح على المهندسين تحديات بقائه صامدا لسنوات طويلة قادمة.
وفي الدار البيضاء، تَبَيّن لي أنه ليس فقط عدد الناس ضخم وهو في تزايد مهول، بل حتى مساحة المدينة، لأن كل المناطق المشهورة في المدينة تبعد عن بعضها البعض بمسافات معتبرة، وتحتاج بالضروري إلى وسيلة نقل، ويتبين أن “الطرامواي” أحسن وسيلة؛ لأنه يقطع المدينة طولا وعرضا ويمكن تغيير الخط دون أتعاب إضافية.
في الدار البيضاء، تَبَيّن لي أن الناس عندما يحسّون بالملل أو القلق يتوجهون إلى الشاطئ، وقد توفرت لي الفرصة لزيارة شاطئ عين السبع الذي بدا لي أنه أكثر ضيقا، وشاطئ عين الذئاب (عين الدياب) الذي بدا لي أنه أكثر اتساعا. وتبين لي أيضا أن عبارة “عين الدياب” ترتبط بمعانٍ غير جيدة، فأحيانا يقال “نمشيو نسهروا فعين الدياب أو هذا كان سهران فعين الدياب” في إشارة إلى المحلات التي تُجاور الشاطئ ويسهر بها الناس ويمارسون مطلق ما يريدون، خاصة ليلا (حسب ما فهمته من كلام الناس).
وفي الدار البيضاء، تَبَيّن لي من خلال مجموعة من المعاملات أن نسبة مهمة جدا من السكان غلب عليها كل ما هو مادي، وأن عبارة “الله يرحم الوالدين” التي تستعمل في مدينة فاس مقابل الأعمال الإنسانية البسيطة، لا قيمة لها هنا، غير أن إقامة سنة واحدة تقريبا في المدينة، يبدو أنها لم تكن كافية لتحديد هل هذا الأمر يحدث فقط مع الأشخاص الذي يتبين أنهم غرباء أم هو بات تعاملا عاديا جدا بين الناس في البيضاء.

6. خلاصة القول

على العموم، كانت تجربة مهمة جدا في مدينة الدار البيضاء، وكانت فيها أحداث مختلفة، وما هي إلا مدينة من المدن المغربية التي تطورت بشكل كبير حتى أصبحت العاصمة الاقتصادية للمملكة، وكان السؤال النهائي الذي أتساءله دائما عندما غادرت المدينة هو؛ هل من الممكن في المستقبل أن أعيش بشكل دائم في مدينة الدار البيضاء؟ والجواب الداخلي كان دائما هو: يستحيل حدوث هذا الأمر.

والله أعلم بالمستقبل.

ادريس ممادي

السن : من مواليد سنة 1997م. الإقامة : مدينة فاس / المغرب . الصفة : باحث في التاريخ ومدون . الشهادات : إجازة أساسية في التاريخ والحضارة ، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز فاس . إجازة مهنية في تدريس التاريخ والجغرافيا ، المدرسة العليا للأساتذة - فاس ( ENS FES ) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *