“رحلة رفقة جايا” الجزء الثاني

رحلة الأرض في تاريخ سحيق

لقراءة الجزء الأول من التدوينة:

رحلة رفقة جايا – الجزء الأول


حسنا، وكما رأينا في الجزء الأول من رحلتنا، تفاجأت جايا من الكائنات الغير ملحوظة التي بدأت حركتها بعد غروب الشمس، لكن ما أثار دهشة جايا فعلا هو كون هذه الكائنات لا تمشي أو تجری وإنما تتحرك إلى الأمام بنعومة. كان لكل من هذه الكائنات نقطتان لامعتان من ضوء أبيض فوق رؤوسها ونقطتان من ضوء أحمر وراءه. تمكنت جايا من أن تری بشرا داخل هذه الكائنات. هل كانوا يحاولون اصطيادها؟ لطالما رأت بشرا من قبل وهم يصطادون وحوشا كبيرة – كالماموث أو البيسون أو حيوان الرنة؛ ولكن الأمر معها لم يكن مثل ما هو مع هذه الكائنات. هؤلاء البشر لا يحملون الآن رماحا، وهم موجودون داخل أجساد هذه الكائنات، ولكنهم لا يستطيعون إيقافها عن الجري مبتعدة، إنها تتحرك بسرعة بالغة. ثم غدت القطعان كثيفة للغاية حتى أنها توقفت عن الحركة، ولا يزال البشر باقين داخلها. هل يكون البشر أنفسهم فريسة لهذه الكائنات الغريبة التي لا تشبه أيا مما رأته في الأزمنة السابقة، وقد ابتلعتهم الكائنات بجسدهم كله وتنتظر لتهضمهم؟
مع تزايد الظلام، أخذت الكائنات الغريبة، والبشر لا يزالون داخلها، تنطلق مبتعدة عن سائر القطيع لتتجه بسرعة كبيرة إلى المناطق الريفية المجاورة. لم تتفرق هذه الكائنات في كل الاتجاهات عبر السهول وإنما تحركت عبر ما بدا وكأنه مجار جافة للأنهار. انسابت جداول كبيرة من الأضواء تتحرك مزركشة عبر الظلام بعيدا عن كثافة الوهج الأصفر العليل الذي يضيء السماء فوق المدن.

على الجانب الآخر من العالم، رأت الإلهة مع أول ضوء للنهار النمط نفسه من الشرائط المزينة حول بقع أخرى مظلمة مع المخلوقات الغريبة نفسها وهي تتحرك فوقها، وهي الآن متجهة وليست مبتعدة عن الشبكات المحكمة للطبقات المحتشدة بالبشر. حول سواحل جايا هناك أنابيب ضخمة تنفث سحبا من أدخنة خانقة في جوها الثمين، وهذه أيضا تحيط بها الكائنات الغريبة نفسها التي رأتها الإلهة وهي تتحرك بطول مجرى الأنهار الجافة. ثمة أكوام هائلة من صخر أسود يقبع في كل مكان، تغذيها كائنات أطول كثيرا تتحرك على شريطين توأمين يومضان في الشمس. ما كان ذات يوم سهلا واسعا أو غابة كثيفة أصبح الآن مقسما إلى مربعات ومستطیلات، كل واحد منها له درجة مختلفة من لون أخضر أو بنی ترابي، بل حتى صحاريها ظهرت فيها دوائر خضراء قليلة، ورأت الإلهة طيورا ترتفع أعلى السطح، بل حتى أعلى السحب، طیور هائلة تمتد أجنحتها متصلبة وهي تندفع بسرعة هائلة جيئة وذهابا، مخلفة وراءها ذيلا من سحب خاصة بها. وهناك داخلها أيضا أفراد من البشر، أمكن للإلهة أن ترى من خلال ثقوب ضئيلة على جانبي هذه الطيور الضخمة صفا وراء صف من البشر وقد ربطوا بالأحزمة بإحكام إلى أرفف وهم فيما يفترض يمضون طريقهم الأن لكي يهضموا جيدا داخل حوصلة هذا الطائر المارد. ترى أي أفراخ رهيبة في أي أوكار بعيدة ترتقب وجبتها التالية؟
عانت جايا حيرة مفهومة من تحول أرضها هكذا تحولا بأقصى سرعة. لقد تغيرت مناطق ضخمة من الكرة الأرضية ما بين عشية وضحاها حسب مقایيسها الزمنية، وتحولت من مشهد عام لنباتات طبيعية بالكامل إلى مشهد عام من مدن وحقول وطرق. إذا كانت الإلهة عند آخر مرة استيقظت فيها لم تر إلا قلة من البشر – مليون بأقصى تقدير، يتناثرون عبر القارات الشاسعة في أفريقيا وأوراسيا وأستراليا (وليس بعد في أمريكا)، فإن الأرض الآن تعج بآلاف من ملايين البشر. كل ما نشأ من الدول والمدن، والصناعة والحضارة، كل الأمور التي نأخذها کشیء مسلم به لأننا لا نعرف غيرها، كلها حدثت في لحظة حسب المقياس الزمني لجايا. إذا كانت قد نامت في العاشرة، فإن كل شيء قد تغير بحلول منتصف الليل.
نحن وقد تعودنا على هذا العالم الحديث صرنا لا ندرك مدى سرعة تغير أحوالنا بعد نهاية آخر عصر جليدي منذ ما يقرب من ثلاثة عشر ألف عام. الأمر أشبه بما يحدث عندما نلحظ تقدم العمر بنا في المرآة، أو تنامي أطفالنا، حيث لا نستطيع رؤية التغيرات الصغيرة التي تحدث من يوم لآخر. أما عندما ننظر إلى صورة فوتوغرافية قديمة لنا أو عندما نجدد معرفتنا بصديق قديم لم نره لسنوات، أو عندما نرى شخصا قابلناه آخر مرة وهو طفل نذهل لمدى ما تغيرنا نحن وهم.

منذ ثلاثة عشر ألف سنة كان أسلافنا يعيشون ما يماثل كثيرا معيشتهم طيلة ما سبق من مليونين من الأعوام. لا يعني هذا أنه لم تكن هناك أثناء تلك الفترة تغيرات في نوعنا والأنواع السالفة له لا ريب أن كانت هناك تغيرات، إلا أن طريقة حياة أسلافنا منذ ثلاثة عشر ألف سنة لا غير كانت تشبه طريقة حياة أسلافنا البعيدين منذ مليونين من السنين إلى حد أكبر كثيرا من شبهها بطريقة حياتنا الآن. أفراد کلا هذين السلفين كانوا يعيشون على صيد الطرائد البرية، وصيد الأسماك، وجمع الجذور والجوز، والفاكهة. ما حدث في المائة ألف جيل التي تفصل هاتين المجموعتين من أسلافنا الصيادين – جامعي الثمار أقل كثيرا مما حدث في الخمسمائة جيل التي تفصلنا عن نهاية آخر عصر جليدي. الفأس اليدوي، أحد أول الأنماط عند البدايات الأولى للأدوات الحجرية، وقد ظل باقيا بلا تغير في تصميمه أو صناعته لثلاثمائة ألف عام؛ وأنا عندي حاسوب عمره سنتان فقط وقد أصبح يعد بالفعل من طراز عتيق.

علي الفيلالي

تلميذ علوم تكنولوجيا كهربائية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *