سكانها عبيد

مجرد مثل شعبي بريء؟ أم رسالة مبطنة؟

“مدينة حمراء، أسوارها خضراء سكانها عبيد و مفتاحها حديد” كان هذا هو اللغز الذي يبحث ابن عمي الصغير عن حل له في إحدى تطبيقات الكلمات المتاقطعة والألغاز، الجواب -وكما يعلم الجميع- هو أنها فاكهة البطيخ إذ أنها حمراء من الداخل وغشاؤها أخضر يعني السور ومفتاحها الحديد أي السكين وسكانها عبيد أي البذور السوداء للبطيخ…

وسكانها عبيد، أي البذور السوداء للبطيخ، لا لم أخطأ وأكرر الجملة… لقد قصدت ذلك، لنعد قراءتها مرة أخرى: وسكانها عبيد أي البذور السوداء في البطيخ. عندما تأملت هذه الجملة جيدا وجدت أنها تحمل في طياتها عنصرية كبرى، عنصرية ممزوجة بالمزاح وألعاب العقل. تذكرت أول مرة سمعت اللغز وأنا صغيرة لم أستطع أن أجيب عنه إذ لم أعرف من هي هذه المدينة التي يسكنها العبيد.. ظننت أنها مدينة قديمة يحتجز فيها الناس ويستعبدون، كان عقلي صفحة بيضاء لا يعرف للعنصرية طريقا، لم يخطر ببالي أبدا أن المقصود بالعبيد سيكون هم ذوو البشرة السمراء من الناس؛ بعدها أخبروني الحل وشرحوه لي تماما كما شرحته لكم وصرت أنا نفسي ألقي اللغز على أصدقائي وأستمتع وأنا أشرح لهم معناه عندما تعجز عقولهم البيضاء عن فهم التلميحات والصفات، كنت بنية طفلة متفاخرة بإلقاء هذا اللغز وفي الحقيقة قد كنت أسمم العقول بشكل غير مباشر مثلما سمم عقلي وقلبي أول مرة.

توالت السنوات، كبرت وتوقفت عن طرح اللغز لأن الكل أصبح يدرك جوابه، لكن مازال الكبار يطرحونه على الصغار ممن لا يعرفونه وهم بدورهم ينشرونه مع بعضهم ويمزحون وكلما كبرو أورثوه إلى الجيل الموالي وهكذا دواليك.

“سكانها عبيد” يقصدون بها ذوي البشرة السمراء … عندما سمعت اللغز هذه المرة كان له وقع آخر ليس كوقعه عندما كنت طفلة صغيرة، أدركت وأنا أتأمله أن التفرقة العنصرية لم تنبع يوما من لون البشرة بل لطالما نبعت من العقل البشري، هذا العقل البشري الذي زرع فينا منذ نعومة أظافرنا عن قصد أو بدونه أن السود عبيد محتقرون وأقل قيمة من الآخرين، مهنتهم خدمة بقية المجتمع. ومع تكرار الألغاز والحكايات المشابهة تترسخ الفكرة ونصبح مع مرور الوقت نعتبرها أمرا مسلما به ونتعامل على هذا الأساس فتجد الكثير ينادي الشخص أو يتكلم عنه وينعته بلون بشرته عوض أن يستعمل اسمه، وعندما يبدي البعض الملاحظة بأن هذا من العنصرية -هذا إن أبداها شخص ما أصلا- يكون الجواب لم أقصد هذا فقط أردت أن تعرف الشخص بسرعة مع أننا نستطيع أن نعرف هذا الشخص بسرعة أيضا إذا ما لقبناه باسمه فعلى حد علمي نحن نتذكر الأسماء بشكل جيد وننادي البيض بأسمائهم رغم أنهم كثيرون.

صورة تعبيرية مخزية عن عمليات بيع الرقيق والعبيد في إفريقيا من طرف الأوروبيين

الأمر لا يتوقف هنا، فهذا السم الذي شربناه صغارا ما ينفك أن يتغلغل في عقولنا ويصل بالكثيرين إلى رفض التعامل مع شخص لا لمشكل فيه إلا لأنه ببشرة سمراء أو سوداء فقط، فلطالما سمعت عن مريض يرفض تلقي العلاج من طبيب قادم من بلد إفريقي وعن أصحاب منازل يعلقون إعلانات بأنهم لا يقبلون ذوي الأصول الإفريقية أو الأفارقة كما يسمونهم مع أننا جميعا نسكن قارة واحدة وكلنا في الأصل أفارقة؛ يا للغرابة، حتى مصطلح أفريقي تم تقويضه ليدل على لون بشرة معين وليس على قارة بحد ذاتها كما هو الأصل.

إن التمييز العنصري أولا وقبل كل شيء نابع من أوهامنا العقلية التي نشأت بشكل زائف و خاطئ منذ أمد بعيد وتوارثناها جيلا بعد جيل، لأنه وفي حقبة ما وبسبب أشخاص ما ظهرت العنصرية وظهر استعباد الناس بسبب ألوان بشرتهم وكله أمر خاطئ كان يجب أن ينتهي العمل به بمجرد أن انتهى زمن الرق والعبودية لكنه وصلنا وتمكن منا.

أتذكر إحدى الحكايات اللسانية التي كانت ترويها أمي بكل حب وبكل رغبة منها في أن تسقي مخيلتي وتعلمني عن طريق القصص، كانت الحكاية عن إحدى الخادمات التي كانت مستعبدة عند عائلة غنية كانت قد نصبت فخا لابنة العائلة وجعلتها تغطس في برميل من القطران بينما اغتسلت الخادمة في برميل آخر من حليب وكل واحدة منهم اكتسبت لون ما غطست فيه فتعامل أهل البيت مع ابنتهم الحقيقية على أساس أنها الخادم رغم أنها حكت لهم ما جرى وترجتهم بأن يصدقوها لكنهم لم يفعلوا ووصل بهم الحد إلى جلدها لأنها تكذب ظنا من أنها الخادمة، فقط لأن لون البشرة قد تغير؛ هذه الحكاية ومثلها تحفر في أذهاننا أن الإنسان ما هو إلا لون ووجه وجسد، أما أفكاره وذكرياته لا تساوي شيئا ولا تعد دليلا على جوهره الحقيقي المحض.

إن الحل لهذا النفور من الآخر ومن سائر أشكال العنصرية وعدم المساواة أولا وقبل كل شيء لا يتأتى إلا بمعالجة الأوهام التي تروج إلى أنه يوجد هناك تفوق لجنس على الآخر، تعصب عرقي عششت فيه فكرة خاطئة بأن الجنس البشري مكون من أجناس منفصلة متراتبة فيما بينها وتتمتع بكفاءات عقلية وأخلاقية وبدنية متفاوتة تستوجب أنماطا مختلفة من التعامل.

والحقيقة أنه لا يوجد سوى جنس بشري واحد يسكن كوكبا واحدا، تختلف ألوانهم على حسب مناطق سكناهم وحالة طقسهم، كثير من الميلانين لسكان المناطق الساخنة والمشمسة ليقيهم خطر سرطانات وأمراض الجلد التي تتسبب فيها الأشعة، وقليل منه لمن يقطنون المناطق الباردة. إننا على رغم اختلافنا أسرة بشرية واحدة نرتبط جميعا بمصير مشترك والاعتراف بهذه الحقيقة والتوقف عن نشر عكسها قصدا أو دون قصد سيكون الترياق الأفضل لسم العنصرية ولسائر مظاهر التفرقة.

سكانها عبيد

خديجة المالكي

طالبة بشعبة الصيدلة بكلية الطب و الصيدلة بالرباط و بشعبة علم النفس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، كاتبة و فاعلة جمعوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *