أَكَلة الناس

من حكايات آكلي لحوم البشر في القاهرة الفاطمية

كانت مجبرة على الخروج في تلك الليلة الشتوية العاصفة. نفذ الطعام في الدار، والأطفال جائعون، والزوج ذهب في سفرة بعيدة طلبا للرزق. غطت نفسها بالسواد بسرعة، وأوصت الصغار بالصبر حتى تأتيهم بالقوت من عند خالتهم. ثم خرجت بعد أن استوثقت من غلق الباب ورائها باحكام.

اقتحمتها دفعة هواء قارسة البرودة، أول ما استقبلت بوجهها الحارة. كانت تلك الأخيرة خالية تماما من المارة. لاشيء فيها يصدر الصوت غير قنديل ضخم تراقصه الريح القوية بعنف، وقمامة أغفل الكناسون كنسها فصارت تتقافز بغير هدى يمنة ويسرة. راقبت المشهد فأصابتها الكآبة، وراحت تسأل في نفسها: “أين صخب الناس، وأين ضجيج الأعراس، وأين بهجة المواكب؟.. أين صراخ لعب الصبية، وأين نداءات الدلالين، وصيحات السقائين، وزيارات القابلات؟!.. أين روائح الطبخ المتسللة بين الدور، وأين أحاديث النميمة، وأين مشاجرات النسوة على توافه الأشياء؟!”.. ثم وبصوت حزين مسموع قالت: “لقد ماتت حارتنا، وماتت المدينة“.

كفت عن التحسر، وبدأت المشي بسرعة إلى دار الأخت البعيدة. صارت تدلف من حارة إلى أخرى، دون أن تعثر في أي منها على أثر للحياة، أو دليل على وجود بشر. كانت أبواب البيوت موصدة، والشبابيك الخشبية مغلقة، بعضها معتم يشير إلى موت أصحاب الدار أو هجرتهم، والبعض الآخر تتسرب منه أضواء ضعيفة خافتة، تنبئ عن ساكنين يختبئون خلف الجدران السميكة، ينتظرون موتا قريبا، أو فرجا بعيدا.

صارت تمني النفس بالعثور على إنسان واحد يطمئن قلبها، ويستبدل الوحشة فيه بالأنس. ولكنها ظلت وحيدة في الطريق، تزعجها ريح تنخر عظمها اللين ببرد لا يرحم، ويخيفها شعور غامض بأن وراء أبواب البيوت، حتى أكثرها موتا وخلوا من البشر، عيونا تراقبها باهتمام.

كانت أصواتا بشرية متداخلة، سمعتها عند المرور بإحدى المنعطفات، هي التي أبعدت عنها مؤقتا رفيقها الذي لازمها منذ أول الرحلة: الرعب. اقتحمت العطفة بحثا عن مصدر هذه الأصوات، علها لأناس يبعثون في قلبها الوجل بعضا من الأمان. ولكن حينما اقتربت، رأت نفرا من الرجال يتحلقون حول مجهول يأكلون منه بشراهة، ويصدرون زمجرة كالوحوش لبعضهم البعض كل حين، ربما لأن أحدهم كان يعتدي على نصيب الآخر.

“يا أهل الله”..

قالتها مرتان فلم يجبها أحدهم، واشتعل الفضول في صدرها للتعرف على كنه الوليمة التي تاه فيها هؤلاء الناس، وشغلتهم عن الرد. اقتربت أكثر، ومالت ببطء نحو واحدا منهم، فاستدار لها بسرعة، وانعكس ما تيسر من ضوء القمر على وجهه، فرأته يقبض بفيه على رقبة هرة، عاقدا حاجبيه بغضب، وكأنه يحذرها من المساس بعشائه.

صرخت متقهقرة إلى الوراء، وجرت داخل العطفة خوفا من أن يقبض عليها هؤلاء، ويقررون أكلها بدلا من الهررة الهزيلة التي يتقاتلون عليها. ولكنها كانت سمينة لا تستطيع العدو، لهثت بسرعة بعد أمتار قليلة، ثم توقفت لالتقاط أنفاسها. نظرت وراءها، فلم تجد أيا منهم يلاحقها. لقد استمروا في الأكل وكأنها لم تمر بهم أصلا، فحمدت الله وهدأ خاطرها. ولكن ما إن استقرت وبدأت تدرك المكان الذي انتهت إليه، حتى بادرت نفسها بالسؤال: “أين أنا؟!”.

كانت واقفة عند نهاية العطفة.وعلى يمينها توجد دور خربة منهارة، وعلى يسارها صف من بيوت بسيطة قصيرة السقوف، يتألف كل منها من حجرة واحدة، تنبعث الأنوار من أسفل أبوابها المصنوعة بغير إتقان، وتخرج من أعاليها كريات الدخان الأسود.

كانت الأطلال توحي بحداثة التهديم. ربما كانت تلك التي دمرتها طوائف الجند المتحاربة، والتي حكى عنها أبو العيال كثيرا، قبل أن يختتم حكايته في كل مرة بصب اللعنات على أولئك الذين خربوا القاهرة، وقادوا أهلها مجبرين إلى الهلاك. احتارت بأي طريق تسير، هل تعود إلى داخل العطفة، أم تتابع حيث تقودها أقدامها؟. وبعد تفكير قصير، اختارت الثانية خوفا من أن تعود فيغير أكلة الهررة رأيهم فيها، ولا يتركونها هذه المرة.

سارت بهدوء بمحاذاة البيوت الصغيرة التي شاهدتها أمام الخرائب. مرت بالبيت الأول ثم الثاني فالثالث ولم يحدث شئ. ولكنها لما جاءت تمر بالبيت الرابع، رأت ظلا يغطي الضوء المتسلل من تحت الباب، فأيقنت أن صاحب الظل يراقبها من ورائه. أصابها الخوف فأسرعت قليلا حتى تجاوزته، وانفتح الباب في تلك اللحظة مصدرا صريرا بطيئا ومرعبا. لم تفكر في الالتفات واستمرت في المشي، ولكنها انصعقت بضربة قوية على رأسها طرحتها أرضا. وبينما هي تتألم متحسسة رأسها الذي ينزف، قبضت على قدميها يدين قويتين، جرتها بسرعة إلى داخل البيت، وتركتها ممدة على أرضيته الخشبية.

رفعت رأسها لتكشف المكان، فوجدت حجرة مستطيلة، ينعكس ضوء قنديلها المائل للحمرة على السقف والحيطان مانحا لهما لونا داميا. كانت صنوف شتى من السكاكين الحادة معلقة على الجدران. وعلى الأرض، كانت الدماء تغطي معظم الألواح الخشبية ولها رائحة زفرة لا تطاق. نظرت إلى يسارها فوجدت كومة من الجثث الآدمية. كان بعضها مفصول الرأس، وبعضها الآخر مشقوق البطن، أو فاقد الأطراف. صرخت كما لم تصرخ من قبل، وحاولت النهوض والهرب. ولكن الخاطف الذي كان يراقبها وهي تكتشف المكان، قبض على ذراعها بقوة وضمها إليه. سمح لها النور برؤية تفاصيل وجهه بدقة. كان طويلا نحيفا أسمر اللون طويل اللحية، يرمقها بعيون ميتة، وتنبعث من فمه رائحة كريهة. دفعها إلى الأرض وقلبها على بطنها، وبسكين مزق ثوبها بالكامل. ثم رفعها رابطا ذراعيها بحبل، ومثبتا إياها في وتد من حديد كان على الحائط.

وقف يتأملها في هدوء، ثم راح بأصابعه الطويلة الخشنة يعبث في لحم فخذيها وهو يقول: “كيف حافظت على هذا اللحم المكدس طوال هذا الوقت؟!.. هذه شحوم لا تليق بمجاعة.. لا ريب أنها ترهقك، وتجعلك دوما محتاجة إلى الطعام.. لا تقلقي. قريبا، سوف أخلصك من مؤونتها“. قالها ثم أتى بسكين ضخم وغرسه في فخذها، فأطلقت صراخة مدوية. وبحركة دائرية محترفة، أخرج قطعة كاملة من لحم، ذهب بها إلى وسط الحجرة وشواها على نار فحم أحرقه. وما إن آنس من اللحم نضجا، حتى أكله في تلذذ وهي يشرب إلى جواره قنينة نبيذ.

ازدادت صراخا ونحيبا عندما رأته يأكل من لحمها حية. ولكنه لم يبد انزعاجا من صوتها العالي، بل قام إليها عندما انتهى من القطعة التي معه، وانتزع لحما آخر من فخذها، وأعاد فعلته الأولى. صرخت فيه: “الرحمة”، فكررها وهو يشوي، مثبتا عيونه في النار: “الرحمة!!.. الرحمة!!“. كان صوته متعجبا وكأنه يسمع بالكلمة لأول مرة، أم تراه أدهش من بقاء مردد لهذا اللفظ في تلك الأيام؟!. نضج اللحم فلم ينشغل بالاسترحام، وعاد إلى الأكل. ثم قام إلى فخذها بعد ذلك مرات عديدة يقطع منه بالسكين ويأكل، حتى زاد نزيفها من الدم وفقدت الوعي.

لم تعلم إلى متى ظلت غائبة عن الوعي. ولكن حين فتحت عيناها، رأت خاطفها وقد أذهبت عقله الخمرة، فنام على جنبه سكرانا يهذي بكلام غير مفهوم، وضوء الفجر قد ظهر وتغلب عبر عتبة الباب على ضوء القنديل. قررت الهرب قبل أن يصحو ويتابع أكلها. فتحركت يمينا وشمالا حتى خلصت نفسها من الوتد الحديدي الذي كانت معلقة فيه، وكان مثبتا بغير كفاءة مثل كل الأشياء الباقية في البيت، ثم راحت تفك الوثاق من يديها. وبتفتيش قصير في المكان، وجدت خروقا من قماش لفت بها الجروح الغائرة في فخذيها،ثم وضعت فوقها ثوبا سترها.

زحفت بكل ما تبقى لها من قوة حتى باب المنزل لعدم قدرتها على الوقوف. وبعد أن فتحت الباب، أكملت زحفها فيا لطريق،الى ان صادفها نفر قليل من الناس كانوا قد خرجوا مع أول النهار لطلب الرزق. أفزعهم منظرها فاجتمعوا حولها، وبعد أن حكت لهم ما جرى، حملوها سريعا إلى بيتها، ثم سارعوا إلى الوالي لإبلاغه بأمر الذي يخطف الناس ويأكلهم. خرج الوالي على الفور لما سمع بالأمر، مصطحبا معه الحرس، واقتحم على المجرم بيته، فوجده لا يزال غائبا في سكرته. أمر بإفاقته وإيقافه بين يديه ليعدد عليه جرائمه قبل الإعدام. ولكنه لما صحا، وقف ينظر إلى الجميع بوجه ثابت لا يشير إلى جزع، بل خال من كل المعاني. فهم الوالي بأن الكلام لن يجدي مع الميت قبل الموت، فأمر بفصل رأسه عن جسده فورا. وبين جثة القاتل وأشلاء قتلاه، وقف الوالي مطرقا إلى الأرض، ثم قال لمن معه: “انظروا إلى ابن آدم..ماذا فعل به الجوع ؟!”.

أما صاحبتنا، فقد صارت بعد عودتها سالمة حديث الناس من أهل القاهرة، حتى أصبحت النساء تزرنها في كل وقت لسماع حكايتها مع “آكل الناس“، ومعرفة كيف تمكنت من الهورب منه بعد أن أكل من لحمها أكلا. وكانت في كل مرة، مطالبة بالكشف عن فخذيها لهن لمشاهدة الحفر التي خلفها سكينه الحامي. وبينما كان فضولهن المقيت يروي ويشبع من هذا السماع وتلك المشاهدة، كانت صاحبة الحكاية نفسها ترتعد كلما ذكرت أو تذكرت ليلتها السوداء داخل ذاك البيت قصير السقف فكانت في ليال عديدة تستيقظ في نومها فزعة على صوت مضطرب خفيض في الحجرة، فترى «آكل الناس» جالسا في الركن نصف المعتم منها، يأكل من لحمها بهدوء، وهو يرمقها بنظراته الميتة.

ما بعد الحكاية.. وقبلها


تنتمي الحكاية السابقة إلى ما يمكن أن نسميه بـ”أدب الشدة“. وهو مجموع الحكايات المروعة التي نقلها المؤرخون المصريون عن “الشدة العظمى” أو “الشدة المستنصرية”، والتي كانت بمثابة موجات سوداء من القحط والوباء والحروب الأهلية، ضربت مصر لسبع سنوات متواصلة (457 هـ/ 1065 – 464 هـ/ 1071) من عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وإليه نسبت.

وفقا لما كتبه المؤرخ المصري الأشهر “تقي الدين المقريزي“، في حولياته المختصة بالعصر الفاطمي: “اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا”، فإن الشدة المستنصرية لم تنشأ فحسب عن تناقص فيضان النيل لعدة سنوات متعاقبة، وما ترتب على ذلك من تناقص الغلات وانتشار الغلاء والوباء في ربوع المحروسة، وإنما أنتجتها النزاعات العسكرية التي دارت بين طائفتين من طوائف الجيش الفاطمي: الأمراء الأتراك، والعبيد السودان. وكانت السيدة والدة الخليفة المستنصر تدعم الفريق الثاني بحكم انتسابها عرقيا إليهم، وترغب في التخلص بهم من سطوة الأتراك على دولة ابنها. وقد تعددت مواقع حرب الطائفتين بين القاهرة وبر الجيزة والصعيد والإسكندرية. واجتمعت مع النقصان في وفاء النيل محدثة خرابا شبه كامل في مصر، حيث انقطعت السبل، وتوقف وفود الغلال من الأرياف والصعيد إلى المراكز الحضرية في القاهرة والفسطاط، ما أدخل أهل الأخيرتين في مجاعة شاملة، أدت إلى نشوء ظاهرة أكل لحوم البشر بين بعض مواطنيها.

إذا ما تابعنا رواية المقريزي، فإن أكل لحوم البشر كان مرحلة نهائية في شذوذ أصاب العادة الغذائية لنفر من أهل القاهرة والفسطاط. فتحت وطأة الجوع الشديد نحو العام 461 هـ/ 1068 – 1069، بدأ رصد حالات متعددة لمصريين يأكلون “الجيف والميتات“. ثم سرعان ما تطور الأمر إلى القبض على الكلاب والقطط من الشوارع وأكلها مطهوة. وأخيرا كانت الطامة الكبرى حين تأكدت السلطات الفاطمية من أن بعض أهل المدينتين قد احترف خطف الأطفال والنساء – وهما أكثر الفئات ضعفا – بغرض أكل لحومهم، وأطلق المصريون على هؤلاء اسم “أكلة الناس“. ويبدو أن قضية صاحبتنا السمينة، والتي كافحت حتى هربت من واحد من هؤلاء بعد أن أكل فعلا أجزاء منها، كانت واحدة من عدة قضايا، أكدت للدولة صدقية الأخبار المتواترة عن ظهور آكلي لحوم البشر في مصر. وقد روتها السيدة صاحبة الحكاية لجارة لها، مطلعة إياها على مواضع الحفر التي أحدثها سكين آكل الناس في فخذها. ثم نقلت الجارة الحكاية بدورها إلى الشريف أبي عبد الله محمد الجواني، وكان يجمع مادة قصصية حول الشدة العظمى لكتاب له اسمه “النقط”. وعن الأخير نقلها المقريزي إلينا في كتابه “اتعاظ الحنفا“.

على أية حال، انتهت ظاهرة “أكلة الناس” مع التشديد الأمني، أو ربما مع نهاية الشدة المستنصرية نفسها في العام 464 هـ/ 1071. وقد أمحى آثار تلك السنوات المرعبة، وقضي على أسبابها، أمير الجيوش بدر الجمالي، المملوك الأرمني الذي استدعاه الخليفة المستنصر من الشام إلى مصر في العام 466 هـ/ 1073، وأعاد بسياسته الحكيمة الأمن إلى البلاد، كما أنهى المجاعة فيها، رادا الحياة إلى القاهرة بعد أن أوشكت على الفناء. ولكن المؤكد في المقابل، أن الجمالي لم تصادفه نجاحات مماثلة في مسح الذكريات المروعة لسنوات الشدة السبع، والتي بقيت لاصقة بأذهان المصريين، خاصة تلك المتعلقة بالذين ارتضوا إشباع بطونهم الجائعة بلحم إخوانهم من البشر.

أَكَلة الناس

خالد أبو هريرة

محرر صحفي وباحث في تاريخ الشرق الأوسط الحديث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *