نفحات من عبق التاريخ الآسفي

أكثر من مجرد مدينة، بل تاريخ قائم بذاته!!

آسفي، أبجدية ذات كلمات خرساء يفوح منها عبق من تاريخها الضارب في الأعماق، حروفها تعزف سمفونية تداعب أوتار الروح، نقاطها الكتوم تنتحب بصمت ترحما على ما طمس من معالمها، تاريخها حيك من خيوط الجسارة ودماء المجاهدين، والآن بعد أن خيم عليها الدجى طفقت تبحث عن وميض لعلها تسترد أنفاسها تحت أنين أوراقها التي نفضتها شجرة التاريخ، اختزلها البعض في سمك السردين والخزف، موارين بين أنقاض الزمن تاريخا بلغ الجبال الرواسي.

وأنت منغمس بين ذراعيها، تلاطفك تأوهات جدرانها ذات المسحة البرتغالية لكن سرعان ما ينتشلك ارتطام أمواجها من سباتك كأنه إكسير يعود بك إلى زمن ليس ببعيد عندما كان البرتغال يحكمون قبضتهم عليها، وإلى جانب قوة رباطة جأش سكانها الذين وقفوا ندا لند ضد الاستعمار، كانت ظاهرة العيطة قد ولجت تاريخ المدينة على مصراعيه، وهي تنطلق من أفواه المظلومين والطبقات التي تقبع أسفل الهرم؛ الذين يتجرعون من كأس المرارة من قبل البرتغاليين.

كانت العيطة أكثر من مجرد كلمات تتقاذف بين الألسن، بل لغة بحد ذاتها تشحذ العزيمة لمجابهة الاستعمار، ولعل من أبرز الشخصيات المخلدة خربوشة التي ظلت تترجم آهات الساكنة آنذاك حتى آخر رمق فيها، وهذه ماهي إلا شذرات من التاريخ الآسفي.

وبعيدا عن العيطة كفن انبثق من رحمها، دعونا نشد الرحال للحديث عن إحدى الشخصيات من الوزن الثقيل التي وطأت هاته الأرض المباركة، ألا وهو الشيخ العلامة أبو محمد صالح الماجري الذي جاء ذكره في كتاب للباحث إبراهيم كريدية، كونه مؤسس طائفة صوفية لقبت بالماجرية والذي كان قد عاصر الموحديين، والذي أعاد إحياء فريضة الحج بعدما أسقطت عن المغاربة والأندلسيين.

وتجدر الإشارة إلى دور بعض الشخصيات الآسفية غداة فترة الاستعمار الفرنسي والتي تسنحق كل التنويه من طينة الأستاذ أمحمد بلخضير. هؤلاء الشخصيات أبانوا على أن تربة مدينة آسفي خصبة قادرة على إنجاب أجيال تحمل شعلة التقدم والإزدهار، والتعريف أكثر بمميزات هاته المدينة وعدم حصرها بين السردين والخزف -وإن كان هذا مدعاة للفخر لكل الآسفيين- فإن مدينة آسفي كانت مشهورة بتصدير أجود أنواع الصقور والشمع ذو الجودة الممتازة، وملح البارود والسكر الذي كان يصدر لإنجلترا… مما جعلها مدينة تجارية بامتياز فيما مضى..
ناهيك عن الجوامع المنتشرة لأولياء الله الصالحين، وهذا ماهو إلا دليل على تاريخها الروحاني، خاصة بعد أن تم فتحها على يد القائد عقبة بن نافع سنة 681م..

لا مناص من أن حاضرة المحيط ماهي إلا نجمة من النجوم التي تزدان بها سماء المغرب، لكن في ظل أوضاعها الراهنة شرع نورها في الانقشاع.
إنها تحتضر تحت وطأة الإهمال، وعلى الرغم من المسامير التي تدق في نعشها مازالت تكابد من أجل النجاة!
إنها أكثر من مدينة، إنها تاريخ قائم بذاته !

نفحات من عبق التاريخ الآسفي